الجزء الثاني ملاحظة:
.
هذه الحلقات بحوث فرعية للسلسة التي تصدر تحت عنوان (ماذا فعل المربع الأمني بغربي كردستان؟) … خسر المستثمر الكردي في هذا الواقع ما ادَخره، وكذلك قوته المادية، ومرونته في الاستثمار. ولم ينجُ من هذا إلا القليل من المستثمرين الكرد. وليسرة حالتهم النسبية التجأوا إلى الخارج، وليس إلى الداخل السوري لضعف إمكانياتهم المادية أمام قوة الرأسمالي العربي السوري من جهة ومحاربة النظام لهم من جهة أخرى؛ بينما تحولت الغالبية العظمى من هؤلاء المستثمرين، لمحدودية ادخارهم وتلاشيه أمام الظرف الطارئ، إلى يد عاملة رخيصة، وعلى عكس القلة القليلة الملتجئة إلى الخارج. فالطبقة العاملة الكردية لم تستطع أن تجد لها مكانا إلا في الداخل السوري، وعليه تراجع البعض إلى سوية الشارع الذي رسمته السلطة، وجاهدوا بكل طاقاتهم للهروب إلى الخارج، وبإمكانيات نفذت طاقتها وبسرعة. ومن المهم التذكير هنا، أن السلطة ركزت على إبقاء السوق بيد الشريحة التجارية وصغار الكسبة الذين لا دور ولاقوه مادية لهم في خلق بنية اقتصادية، مع عدم امتلاكهم للخبرة وقدرة الاستثمار بالاعتماد على الذات.
.
ويشكلون شريحة منابعها، من المواد الأولية والخدمية، من خارج المنطقة، وبكل سهولة يمكن قطع شرايين السوق بهذه الطريقة، والقضاء على أي تحرك خارج المخطط المرسوم من قبل سلطة بشار الأسد. أما فئة الفلاحين فقد ظلت مرهونة بالمساعدات الحكومية؛ من حيث البزار والأسمدة والمستلزمات الأخرى، ومن النادر كان منتوجها السنوي كافيا لإخراجها من العوز. ظلت هذه الشرائح تخدم حركة السوق واقتصاد المنطقة، ونادرا ما كانت الدولة تمدها بسيولة لتطوير مشروعٍ، أو إقامة خدمات في المنطقة، وجل التطور الحاصل للمنطقة الكردية كان متوائما لمتطلبات السلطة هناك، وما عداها كان ممنوعا منعا باتا.
.
ولم تكن وضع الحركتين السياسية والثقافية بأفضل، فالثقافية، التجأت بعض منها إلى الهجرة الخارجية، والبعض بقي يتنبه ويتلاءم مع الواقع ويتقبله على مضض باحثاً عن المنافذ القليلة جدا والضيقة للعبور منها إلى التعبير عن ذاته وأفكاره وعن المعاناة والواقع المعاش، وكثيرا ما التهت شريحة من المثقفين بالصراعات الداخلية السياسية والثقافية الكردية، وغضت الطرف أو تناست السلطة وبشائعها، واندرجت إلى معالجة مسائل ثانوية بالنسبة للقضية الكردية وضخمتها، وكانت تستمد صراعها هذا من السلطة دون أن تدري.
.
ومن جملة تلك المسائل قضية الصراع مع شريحة الخارج. وهاجمت الخارج بشدة وامتدت مرحلة التهجم هذه لسنوات. وتشعبت الانتقادات بين تسمية شريحة الداخل بالوطنية وشريحة الخارج بالمتعالية أو الانتهازية أو الهاربة البائعة للوطنيات، وما إلى ذلك من التعابير التي ألصقت بالحركة الثقافية الملتزمة في الخارج، وعلى بنية هذه التهم والالتصاقات كان التمهيد لعمليات الانشقاق بين الحركة، والتي بدأت من الداخل لتعلن عن انفصالها عن الخارج، ولم تتوانَ بعض الأحزاب أيضا في تعميق هوة الشرخ بين هذه الشريحة لخدمة أجنداتها الحزبية، وهكذا إلى أن بلغ الأمر بها إلى مشاركة الأحزاب في خلافاتهم، بل نقلتها إلى وسطها، وأصبحت هي الأخرى تتهم بعضها البعض بشتى التهم كما الأحزاب. وتدنى اعتبارها ورؤيتها ومشورتها إلى مستوى الأحزاب السياسية، بلا اعتبار إلا ما ندر. وفيما بعد برز التهجم على الحركة السياسية النازحة من المنطقة، وتحت شعارات جاهزة مسبقا ضمن أروقة المراكز الأمنية، وأغرقت سوق السياسة بالتهم والموبقات بحق البعض شخصيا وحزبيا، بلغت حد العمالة والخيانة. وهذه قضايا بحثنا فيها سابقا، ومع ذلك تحتاج إلى دراسات مطولة وعميقة. وبعض الأحزاب السياسية رضخت ثانية للسلطة ومراكزها الأمنية وتقبلت الإملاءات تحت الظروف المفروضة، فتحولوا إلى أدوات في يد السلطة تستخدمها عند الحاجة. مع انطلاقة الثورة السورية، بدأت المرحلة الثانية، الهجرة المعاكسة للطبقة العاملة الكردية، أي عودتها إلى من حيث هجرت، وكانت من ضمن نتائج الثورة الإيجابية الآنية، عادة تكون النتائج الأولية غير مستقرة، لأن القوة الأساسية للثورة غير مسيطرة ولا تملك قدرة التحكم بالواقع والحفاظ على بقاء واستمرارية مثل هذه النتائج. خلقت ظروف الثورة السورية، والحرب الطائفية الأهلية التي افتعلتها سلطة بشار الأسد، وفقدان الأمن في المدن الكبرى، إلى جانب عامل الاستقرار النسبي في المنطقة الكردية، إلى عودة المهاجرين إلى مناطقهم، ورافقت عودة الكرد هذه مجيء أعداد غفيرة من الداخل السوري طلبا للأمن والسلم النسبي المتواجد هناك، ولولا الثورة السورية لانقطعت روابط المهاجرين الكرد بمناطقهم. والتجاء الداخل السوري إلى هذه المناطق أدى إلى تغيير ديمغرافي لها؛ وذلك لكثرة الملتجئين من العرب السوريين. من نتائجه ظهور عدة أزمات:
.
سكنية، واجتماعية، وغذائية، والغلاء، علاوة على مخطط السلطة، حيث الاغتيالات والاعتقالات، ونشر الرعب، إضافة إلى الحصار الاقتصادي من الأطراف المتحاربة؛ وذلك لصعوبة التنقل بين المناطق في سوريا، وهكذا أصبحت آلاف العائلات بدون مأوى، فعجت مساكن الأقرباء الضيقة بذويهم، وساد العوز ثانية، وتفاقم الغلاء، وبوتيرة تصاعدية حادة، وأزداد التضخم المالي المقصود، إلى جانب تفاقم نسبة البطالة، في مدن وقرى انعدم فيها الاستثمار الكردي، وتضاعفت النسبة السكانية في مدن قامشلو وديركا حمكو وعامودا وتربه سبيه وغيرها، وفي العديد من القرى، كما امتلأت الشوارع بالعاطلين عن العمل من تلك الطبقة العاملة الماهرة، والتي تستمد رزقها من خبرة يديها ومن العمل اليومي. حيث أجواء الثورة والخوف الدائم المقضية على كل رغبة في البناء أو إقامة مشروع اقتصادي، والمقضية أيضا على كل أمل بعودة أو مجيء الاستثمار الكردي من الخارج إليها وإلى مدنها، فهي محيطة بكل الأخطار، وهذا ما أرضت السلطة، لتمرير مخططها ثانية، حيال العوز والفاقة والجوع، ولا يوجد مخرج إلا الهجرة ثانية.
.
امتلأت الشوارع بالعاطلين عن العمل من تلك الطبقة العاملة الماهرة، والتي تستمد رزقها من خبرة يديها ومن العمل اليومي… يتبع…
.
.
د. محمود عباس الولايات المتحدة الأمريكية
.
[email protected] نشرت في جريدة بينوسا نو العدد(35) الناطقة باسم رابطة الكتاب والصحفيين الكرد في سوريا.