كوردستريت || الصحافة
منذ اللحظة الأولى التي أُعلن فيها عن اللقاء المرتقب بين الرئيسين الروسي، فلاديمير بوتين، والأمريكي، جو بايدن، إلا وبدأت التكهنات والتحليلات حول مضمونه.
يأتي اللقاء المرتقب بين الزعيمين:
أولاً، في ظل تدهور ملحوظ في العلاقات الروسية الأمريكية، ربما لم نشهده منذ الحرب الباردة، ولعلنا نذكر في هذا المقام ما شهده أبريل الماضي من سحب للسفير الروسي من واشنطن للتشاور، عقب وصف الرئيس الأمريكي لنظيره الروسي بـ “القاتل”، ثم عودة السفير الأمريكي من موسكو، عقب توصية من موسكو له بـ “إجراء مشاورات معمّقة وجدّية”، علاوة على تبادل طرد الدبلوماسيين، ووقف استصدار تأشيرات للمواطنين الروس لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية، خلاف الحالات القصوى، وتأشيرات الدبلوماسيين.
ثانياً، على وقع تصعيد عسكري على الأرض على حدود روسيا الغربية والجنوبية، متمثلاً في مناورات “حامي أوروبا 2021” الأكبر لحلف الناتو منذ 30 عاماً، وحشد روسي ضخم للقوات على الحدود الجنوبية، احترازاً لأي تهوّر من جانب أياً من كان من وكلاء الغرب المتحمّسين.
ثالثاً، عقب محاولات متكررة في الأعوام الماضية لافتعال ثورات ملوّنة على حدود روسيا، لعل آخرها كان ما حدث في بيلاروس، ولا زالت تداعيات أحداثه تلقي بظلالها على المشهد الأوروبي، فيما جرى مؤخراً من توقيف أحد المعارضين، الذي كان متواجداً على طائرة متوجهة إلى ليتوانيا، أجبرتها السلطات البيلاروسية على الهبوط في العاصمة مينسك، عقب بلاغات بوجود قنبلة على متنها، ولا زالت الأزمة قيد التداول.
رابعاً، بعد إعلان الرئيس بايدن إعفاءً من العقوبات لشركة “السيل الشمالي -2 إيه جي” Nord Stream 2 AG، الروسية الأوروبية المشتركة، القائمة على إنجاز مشروع “السيل الشمالي-2″، واعترافه بأن “المضي قدماً بفرض العقوبات في الوقت الراهن هو أمر غير بنّاء” في علاقة الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا، وهو الإعلان الذي قوبل بترحيب من المستشارة الألمانية، أنغيلا ميركل، بهذا القرار، بينما أضافت أنها ستناقش المشروع مع بايدن خلال قمة مجموعة السبع الكبار في بريطانيا يونيو المقبل.
خامساً، عقب إبلاغ الولايات المتحدة الأمريكية، الخميس الماضي، روسيا بأنها لن تعود إلى اتفاقية الأجواء المفتوحة، التي تسمح بتسيير رحلات جوية غير مسلّحة فوق عشرات الدول الموقعة على الاتفاق، في ظل مزاعم الخارجية الأمريكية بأن “انتهاكات روسيا” كانت السبب في تقويض الاتفاقية.
سادساً، وسط اتهامات أخرى مزعومة بوقوف روسيا وراء حملة قرصنة ضخمة، تم الكشف عنها العام الماضي، بسلسلة هجمات على وكالات حكومية أمريكية ومراكز صناعة قرار واستشاريين ومنظمات أخرى، وفي ظل تحديث أمني من شركة “ميكروسوفت”، نشر الخميس الماضي، بأن المجموعة “نوبيليوم” صعّدت هجماتها، لا سيما التي تستهدف الوكالات الحكومية الأمريكية المشاركة في صناعة السياسة الخارجية الأمريكية. يأتي ذلك بعد شهر من فرض واشنطن عقوبات وطرد دبلوماسيين روس رداً على تورط مزعوم لموسكو في هجمات واسعة النطاق العام الماضي، استهدفت شركة “سولار ويندز”، وهي شركة برمجيات أمنية أميركية، وتلك اتهامات لا تنتهي بـ “التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية وأنشطة عدائية أخرى”.
سابعاً، على خلفية وقف إطلاق نار هش بين الفلسطينيين والإسرائيليين، عقب التصعيد الإسرائيلي الأخير، والهجوم العنيف على قطاع غزة، والمناوشات بين فصائل المقاومة الفلسطينية وإسرائيل، والتي أرغمت الأخيرة على قبول وقف إطلاق النار، عقب وساطات من مصر وقطر.
ثامناً: في ظل إعادة انتخاب الرئيس السوري، بشار الأسد، بنسبة 95.1%، وتهنئة روسيا وإيران للأسد، وسط اعتراضات غربية واسعة، وبالتالي تراجع فرص الحل السياسي، والمضي قدماً في مسار المفاوضات بين القيادة في دمشق والمعارضة.
تاسعاً: في ظل استمرار سير المفاوضات لإحياء الاتفاق النووي الإيراني في العاصمة النمساوية فيينا بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والصين وروسيا وألمانيا.
عاشراً: في ظل استمرار جائحة كورونا، وظهور سلالات جديدة، على خلفية مجهودات عالمية لاعتماد اللقاحات، وتطعيم أكبر عدد ممكن من السكان حول العالم، لما تمثله الجائحة من تحدٍ هائل للاقتصاد العالمي، والتجارة العالمية.
وعلى ما تبدو عليه هذه المحاور من تناقض وتباعد سواء على مستوى الجغرافياً، أو على مستوى السياسة والتوازنات الدولية، إلا أن جميع هذه المحاور متّحدةً تمثل شبكة شديدة التعقيد من التحديات والمصاعب ونقاط الخلاف بين الطرفين، سيحاولان، فيما أظن، تجاوزها قدر الإمكان، والتركيز على ما يمكن إيجاده من نقاط تلاقٍ للمصالح الاستراتيجية بين البلدين.
وكان سكرتير مجلس الأمن الروسي، نيقولاي باتروشيف، ومستشار الأمن القومي الأمريكي، جيك سوليفان، قد عقدا الأسبوع الماضي اجتماعاً في جنيف، وصف بأنه “مرحلة مهمة” في التحضير للقمة الروسية الأمريكية المرتقبة. وقال البيان المشترك عقب الاجتماع إن اللقاء بين باتروشيف وسوليفان جاء “استمراراً منطقياً للمفاوضات التي جرت في 19 مايو بين وزيري خارجية البلدين، سيرغي لافروف، وأنتوني بلينكن”.
وقد تناول باتروشيف وسوليفان طيفاً واسعاً من القضايا، إلا أن الأولوية كانت لقضية الاستقرار الاستراتيجي، حيث أجمع الطرفان على ثقتهما في إمكانية التوصّل إلى حلول مقبولة لكليهما في عدد من المجالات.
واتفق الطرفان على أن تطبيع العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة الأمريكية من شأنه أن يخدم مصالح البلدين، ويسهم في تحقيق الاستقرار على الساحة العالمية.
من جانبه أكّد الكرملين على لسان المتحدث باسمه، دميتري بيسكوف، على أن هذا اللقاء “أمر مهم إلى حد كبير بالنسبة لعلاقاتنا الثنائية وإخراجها من وضعها المؤسف الراهن”.
أعتقد أن الطرفين سوف يطرحان في البداية طرقاً ووسائل لاستعادة الثقة بين القوتين النوويتين، وهو ما يفتقده العالم، الذي بات مهدداً أكثر من أي وقت مضى باشتعال فتيل المواجهات في مناطق شتى من العالم، الأمر الذي قد يطال البشرية بأسرها. ولعل أهم ما يجب وضعه في الاعتبار، بهذا الصدد، ما قاله الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، بشأن تفعيل الرقابة على الأسلحة، بما في ذلك من خلال توقيع معاهدة جديدة في هذا المجال. حيث أعرب غوتيريش عن أمله في أن يبدأ الزعيمان “حواراً جديّاً حول سبل إحياء عملية نزع السلاح والرقابة على الأسلحة، بما في ذلك عبر معاهدة جديدة تحل محل معاهدة ستارت 3”.
ستحاول روسيا قدر استطاعتها إقناع الجانب الأمريكي بالضغط على أوكرانيا للعودة إلى اتفاقيات مينسك، ومنح إقليم الدونباس حكماً ذاتياً موسّعاً في إطار أوكرانيا، والتخلّي عن أوهام القوة، والغطرسة، والعنصرية ضد مواطنيها الذين ينتمون إلى الثقافة الروسية، خاصة وأن جزءاً كبيراً منهم (400 ألف مواطن أوكراني وفق آخر التقديرات) أصبحوا يحملون الجنسية الروسية. كذلك سيحاول الرئيس بوتين، فيما أظن، أن يوصل للشركاء الأمريكيين، ما تم تجاوزه من مراحل متقدمة في تكامل شبه جزيرة القرم مع الوطن الأم روسيا، عقب عودتها استناداً إلى استفتاء شرعي، وفقاً لجميع القوانين والتشريعات الدولية. لذلك، أعتقد أن ما يتعيّن على الولايات المتحدة الأمريكية والغرب إدراكه هو أن سياسة العقوبات، كما قالها الرئيس بوتين من قبل، سوف يكون لها تأثير “البوميرانغ”، وستؤثر على من يفرضها بالأساس.
أتوقع كذلك أن تستمر روسيا في مسارها المعروف بمعاودة التأكيد على تفعيل دور هيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها المختلفة في حل المشاكل الإقليمية والدولية حول العالم، خاصة وأن كثيراً من المشكلات الراهنة قد صدرت بشأنها قرارات من مجلس الأمن، ووضع خبراء الأمم المتحدة خرائط طريق للخروج من الأزمات بالطرق السلمية، بمراعاة مصالح جميع الأطراف في هذه البلدان، وعلى رأسها مصالح شعوبها، إلا أن آليات التنفيذ، ووسائل المماطلة والتسويف والالتفاف على هذه القرارات، وهو ما يحدث في أحيان كثيرة تحت مرأى ومسمع من المجتمع الدولي، وصمت مريب من جانب الغرب، تجعل من دور هيئة الأمم المتحدة وقراراتها دوراً “استشارياً” أو “اختيارياً” يطبّق على البعض، ولا يطبّق على البعض الآخر.
لا شك أن ازدواجية المعايير هي ما يضعف دور هيئة الأمم المتحدة، ولا أظن أن الرئيس بوتين، بصلابته المعهودة، وقدرته الدبلوماسية على المناورة، سيعجز عن إيجاد الكلمات والطريقة التي يشرح بها لنظيره الأمريكي تداعيات ازدواجية المعايير على شتى القضايا حول العالم، بدءاً من كوسوفو والقرم، وانتهاءً بإجبار طائرتي الرئيس البوليفي، إيفو موراليس (2013)، ثم “ريان إير” (2021)، على الهبوط.
لا شيء يربط بين الديمقراطية والحرية، وبين المحاولات الفجة لافتعال توترات داخلية وزرع خلايا لتنفيذ تكنولوجيا الثورات الملونة من خلال وسائل التواصل وباستخدام سلاح الصورة وتلفيق الأخبار الكاذبة عن أحجام التظاهرات وما يحدث فيها من “فظائع”، لاستخدامه فيما بعد لإشعال الثورات وزعزعة الاستقرار. وما رأيناه في اقتحام الكونغرس الأمريكي عشية انطلاق الانتخابات الرئاسية الأمريكية، وكذلك ما رأيناه بحق الرئيس الأمريكي السابق، دونالد ترامب، من حرمان لحقه الطبيعي في الحديث لوسائل الإعلام، أو عبر وسائل التواصل الاجتماعي، يؤكد على أن الولايات المتحدة الأمريكية تتصرف على نحو أكثر عنفاً وأكثر تطرّفاً حينما يتعلّق الأمر بأمنها الداخلي، واستقرار نظامها السياسي.
لذلك فإن ربط مشاريع اقتصادية بحجم “السيل الشمالي-2” بمشاريع التغييرات السياسية على الحدود مع روسيا، وداخلها من خلال شخصيات معارضة، لا يساهم في خلق أجواء بنّاءة تتسم بالشفافية والنزاهة كما تستدعي ثقافة اقتصاد السوق وعدم الاحتكار التي تدعو إليها الولايات المتحدة.
إن الإصرار على اتهام روسيا بكل الموبقات، وتحميل المشكلات السياسية الداخلية في الولايات المتحدة الأمريكية على “عدو” خارجي (تحوّل في الأيام الأخيرة إلى “خصم” عشية القمة!)، هو أمر قد زاد عن حده، لا سيما وأن الجانب الأمريكي لا يقدّم دليلاً واحداً على أي من اتهاماته، بدعوى أنها “أمور سرية” ولا يجب فضحها. ثم أن السؤال المطروح، والذي يمكن إدراجه أيضاً في نطاق ازدواجية المعايير، لماذا تسمح الولايات المتحدة الأمريكية لنفسها بالتدخل في شؤون الدول، والتغلغل في مؤسساتها، بينما تصرخ وتزبد حينما تتعرض لهجمات إلكترونية مجهولة المصدر، فتتهم بها الحكومة الروسية دون أي دليل.
في إطار التصعيد الأخير على قطاع غزة، يسعى بايدن إلى إظهار مدى اهتمامه بجهود حل النزاع بتحديده شخصياً وزير خارجيته ليقوم برحلة إلى الشرق الأوسط، كما جدد دعمه لحل الدولتين، الذي يدعمه المجتمع الدولي، والذي كانت إدارة الرئيس الأمريكي السابق قد نبذته.
أتوقع أن يؤكّد الرئيس الروسي على ضرورة تفعيل عمل الرباعية الدولية لتسوية القضية الفلسطينية (الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والاتحاد الأوروبي وهيئة الأمم المتحدة)، وأهميتها في الضغط لتنفيذ قرارات الأمم المتحدة بقيام الدولة الفلسطينية على كافة الأراضي الفلسطينية بما في ذلك القدس الشرقية، ووقف الاستيطان الإسرائيلي، وترك قضية المستوطنات القائمة لحلها بين الفلسطينيين والإسرائيليين، بعد أن يتمتع الفلسطينيون بحقهم في إعلان قيام دولتهم.
فيما يخص الأزمة السورية، فإن الموقف الروسي واضح لا يتغيّر، ويستند إلى تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، وعلى الرغم من صعوبة الوضع بين السوريين، وحجم الخلافات بينهم، إلا أننا في روسيا نتعامل مع القيادة في دمشق، حفاظاً على السيادة السورية ووحدة الأراضي ومؤسسات الدولية، ونقدر تجاوب النظام السوري والرئيس الأسد مع جهود مسار أستانا، الذي أوقف القتال بين السوريين، وفرض نظام التهدئة على كافة الأراضي السورية، ونؤمن بأن الظروف الحالية تحتم علينا إعطاء هذا الإنجاز الأولوية القصوى، وهو ما يجعلنا نتعامل مع الدستور الحالي بوصفه الإطار الشرعي والمعترف به بحسب القوانين الدولية واحترام السيادة، إلا أننا، وفي الوقت نفسه، نحاول مساعدة السوريين في التوصل إلى توافق، ودستور جديد، يحقق تطلعات الشعب السوري، ويرقى إلى ما بذله من تضحيات، في إطار قرار مجلس الأمن رقم 2254، ونعتبر أن اللجوء إلى أي أسلوب آخر خلاف ذلك سيؤدي إلى عودة الاقتتال بين أبناء الشعب الواحد، وهو ما لا يجوز أن نسمح به، خاصة بعد أن تم القضاء على التنظيمات الإرهابية، وبسط سيطرة الدولة على معظم أراضيها.
في الملف النووي الإيراني، تعمل روسيا بكل جدية وحماس بالاشتراك مع هيئة الأمم المتحدة ومجموعة برلين لتطبيق قرار مجلس الأمن بحذافيره، وكذلك ما توصلت إليه جهود مجموعة برلين. كذلك فنحن نرى أن فرض العقوبات والشروط المجحفة والحصار على إيران، لا يساعد، بل يعرقل كل جهود التفاوض الجاري حالياً في فيينا، ونأمل أن تنتهي الاجتماعات الحالية إلى عودة الاتفاق النووي الإيراني إلى حيز التنفيذ.
لا شك أن جائحة كورونا كانت درساً بليغاً لنا جميعاً حول العالم، وأعتقد أن تضافر الجهود بين روسيا، صاحبة أول لقاح يسجل عالمياً، وبين الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت أكثر من عانى من الجائحة على مستوى العالم، لكنها في الوقت نفسه قد حققت معدلات هائلة في تطعيم السكان، أعتقد أن تضافر جهود الدولتين سوف يمثّل لبنة أساسية في التوصل إلى بروتوكولات يمكن اعتمادها دولياً سواء على مستوى اللقاحات، أو على مستوى اعتماد هذه اللقاحات في حركة البشر والبضائع حول العالم.
في تقديري، لا أظن أننا بصدد “قمة معجزات”، يمكن أن تنهي في ظرف ساعات سنوات من الحصار والعقوبات وسياسات العزل وطرد الدبلوماسيين والتصعيد الكلامي الذي تجاوز الكلمات إلى حيز المناورات العسكرية الضخمة والحشد العسكري استعداداً للمجهول. إلا أننا، بالتأكيد، بصدد “خطوة أولى” في طريق الألف ميل، خطوة تشيع بعض التفاؤل الحذر، خطوة ربما ستليها خطوات أخرى من جهود شاقة لبناء الثقة، ثم محاولات البحث عن أرضيات مشتركة، لتوحيد المفاهيم، أو على الأقل الوقوف على مواضع الخلاف، لتجنّبها أو تجاوزها، انتظاراً لحلحلتها، وربما التخلص منها مستقبلاً.
رامي الشاعر
كاتب ومحلل سياسي