كاوا عيسى
.
يبدو ان السؤال الذي يحير الكثير من السوريين ويقفز دائما ليشغل وسائل الاعلام والمراقبين والمحللين في بداية كل سنة ثورية سورية جديدة، هو لماذا تستمر الثورة السورية في عدم تحقيق اهدافها رغم التكلفة المالية والبشرية الهائلة، بالمقارنة مع ثورات اخرى في المنطقة استطاعت ان تنجز معظم اهدافها بكلفة مادية وبشرية وخلال فترة زمنية لا تقارن باي شكل مع الحالة السورية كما كان في تونس ومصر؟، بل على النقيض فان المجتمع السوري بات يعاني من الانقسام بعدة اتجاهات وينغمس في الطائقية التي ربما قد تصبح سمة المجتمع السوري قريبا؟.
.
لا تقتصر الاجابة على هذا السؤال فقط على شكل وطبيعة المعارضة السورية كاتجاهات وهياكل سياسية، والتي تتحمل بكل تأكيد جزءا من مسؤولية الفشل المستمرة للثورة السورية، ولا على حالة توازن الصراعات الدولية والاقليمية على الارض السورية، والتي تعكس بدورها حالة الفشل الانساني للاسرة الدولية، وانما تمتد لتشمل كيان الدولة السورية نفسها والواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي قام ببناء هذه الدولة في المراحل السابقة لقيام الثورة.
.
فباجراء مقارنة بين دولة سوريا ودول المنطقة التي انتهت ثوراتها بنجاح وحققت معظم اهدافها، سنجد ان هناك اختلافات كبيرة بينها من حيث طبيعة المجتمع الذي اسس وكون هذه الدول والسلطات الحاكمة فيها، وذلك على الرغم من التشابه الشكلي لانظمة الحكم الشمولية والاستبدادية في كل من تونس ومصر وسوريا، الا ان اختلاف الحالة السورية عن الحالتين المصرية والتونسية يعود الى التوحد التام بين مفهومي الدولة والسلطة في سوريا.
.
فاذا اجرينا تحليلا للمجتمع التونسي والمصري سنجد ان الدولة في تونس ومصر وان كانت قد تأسست في ظل انظمة حكم شمولية الا انها تمكنت من بناء مؤسسات وطنية متينة ومنفصلة عن جسم السلطة الحاكمة فيها، ادت بدورها الى ظهور بنية فوقية متنورة، افرزت مجتمع يتسم بالمدنية السياسية الى حد كبير، حيث سعى هذا المجتمع في تلك الدول عبر عقود من الزمن الى احداث التغيير الديمقراطي في الدولة باعتبارها المصلحة الاولى للمجتمع، وليس باعتبارها حاجة ملحة للعيش بكرامة وحرية، وبذلك يمكن القول ان ترافق وجود المؤسسات الوطنية القوية الى جانب المجتمع المدني القادر على عزل السلطلة الحاكمة عن الدولة بسلاسة ودون ان يؤدي ذلك الى انقسامات داخل بنية المجتمع نفسه، كان السبب الرئيس لتحقيق هذه الثورات للنجاح ووصولها الى اهدافها في احداث التغيير الديمقراطي واسقاط الانظمة دون اسقاط الدول نفسها.
.
اما في الحالة السورية فان تكوين الدولة السورية بدأ مع مرحلة حكم البعث في سوريا، حيث استطاع النظام ان يذيب مؤسسات الدولة داخل مؤسسات البعث، ومن ثم تقدمت مؤسسات السلطة (المخابرات) لتتحكم بالاثنين، وبالتالي فان هذا التداخل العضوي بين مؤسسات الدولة والنظام ادى بدوره الى صهر المجتمع المدني السوري، الذي كان قد بدأ بالتشكل خلال فترة الخمسينات من القرن الماضي.
.
ولفهم كيفية ممارسة السلطة السورية لعمليات اذابة الدولة داخلها، لابد من الوقوف على الآليات التي اعتمدها النظام في ذلك، فمثلا مؤسسة الجيش السوري الذي اظهر منذ الايام الاولى للثورة تعصبا شديدا في وقوفه الى جانب النظام في سوريا، لم يأتي هذا التخندق مع النظام من باب التزام الجيش بقرارات السلطلة السياسية في البلاد، بحكم سقوط شرعية النظام التي سقطت مع اول قتيل في سوريا، وانما جاء كنتيجة للتلاحم الغير قابل للفصل بين الجيش والسلطة، هذا التلاحم الذي اعد له النظام جيدا في المراحل السابقة للثورة، وذلك عبر أدلجة الجيش عقائديا بافكار البعث والعروبة المتجاوزة للحالة الوطنية السورية، الى جانب تقييد حركته في حال حدوث اي ثورة شعبية من خلال اسناد المراتب العليا والهامة والحيوية كافة الى ضباط من الاسرة الحاكمة، وهذا ما جعل الجيش في سوريا اداة رهن اشارة النظام ولا تمت باية صلة الى الدولة والشعب السوري.
.
وهذا هو الحال بالنسبة الى باقي مؤسسات الدولة الاخرى التي تم تطويع كلا منها بطرق وممارسات أدت الى حتمية تماهيها مع السلطة الحاكمة في سوريا، وبالتالي يمكن القول ان سوريا في المراحل التي سبقت الثورة كانت تعاني من غياب حقيقي للدولة والمجتمع، مقابل تضخم هائل للسلطة على حساب الاثنين، اما في مرحلة الثورة السلمية في سوريا، فقد برزت بعض القيادات في بداية الثورة والتي اظهرت ارتباطها مع افكار المدنية والمجتمع المدني عموما، ولكن عسكرة الثورة ادت الى اخراج هذه القيادات لتبقى الساحة السورية مفتوحة للصراع بين امراء حرب باتوا يفرضون توجاهاتهم السياسية والفكرية عبر فوهات البنادق الموجهة الى الشعب السوري وحده، مما أدي الى تمزيق المجتمع السوري وترسيخ هيمنة السلطة على كافة مفاصل الدولة.
.
وبذلك يمكن القول ان احد اهم اسباب استمرار محنة السوريين هي عدم فهم وادراك طبيعة الدولة والمجتمع في سوريا فهما صحيحا من قبل الثوار في بداية الثورة والمعارضة السورية في المراحل اللاحقة، الى جانب قدرة النظام على التحكم بكافة تفاصيل الدولة وامتلاكه الادوات الكافية لتحريك مكونات المجتمع السوري وفق اتجاهات يفرضه عليها.
.
وبالتالي يمكن اعادة صياغة السؤال على الشكل التالي: اذا كان هذا هو حال المجتمع والدولة في سوريا، الم يكن من الاجدر الا تقوم الثورة في سوريا وتنتظر على الاقل الى ان تتكون بنية مجتمعية اكثر مدنية ومرونة و قدرة على فصل الدولة عن السلطة الحاكمة؟، يكون الجواب النفي بكل تأكيد، لان كل مجتمع له حق القيام بالثورة في وجه الظلم والاستبداد والطغيان متى امكنه ذلك، ولكن مع فارق جوهري واحد هو ان المجتمعات الشبيهة بالمجتمع السوري سترتفع فيها التكلفة والخسائر التي لابد من تقديمها لنيل الحرية والكرامة.