انسحب المقاتلون من أجل الحرية من حمص بعد حصار دام 690 يوماً، ونفاذ كل مواردهم، وانعدام كل مقومات الحياة، من ماء وغذاء ودواء، وبعد فشل محاولات عديدة لفكّ الحصار من الداخل، وعجز القيادة العسكرية والكتائب القريبة عن فتح ثغرة من الخارج. واضطر المقاتلون الذين صمدوا في مواجهة كل الهجمات، ومثلوا إرادة حمص وروح الحرية والتضحية والفداء التي سكنت قلوب أبنائها جميعاً، إلى الخروج من عاصمة الثورة السورية، بعد توقيع هدنة تقضي بتسليمهم أسلحتهم الثقيلة، والانسحاب نحو مواقع جديدة في الريف الشمالي، ليتابعوا منها، مع إخوتهم، كفاحهم البطولي ضد نظام الجريمة المنظمة والقتل والفساد والطغيان.
فقد مقاتلو الحرية الحقيقيون موقعاً استراتيجياً مهماً، بل بالغ الأهمية، في حمص، وسجل النظام مكسباً مقابلاً، بإعادة انتشاره في المدينة الشهيدة التي دمّر حتى آخر منزل فيها. وكما يعمّ الحزن جميع الثوار، وأنصار الثورة السورية، لتنكيسهم علم الحرية في حمص، بعد معارك ضارية، سيوزّع قادة نظام الإبادة الجماعية والتطهير “العرقي” في دمشق، وحلفاؤهم في لبنان والعراق، على أنصارهم قطع الحلوى المغمّسة بدم أطفال حلب ودرعا ودير الزور ودمشق وحماة، وغيرها من المدن التي تتعرض للهجوم بالصواريخ والبراميل المتفجرة.
يخفّف من وقع المصيبة ما يحققه الثوار، في أكثر من موقع وجبهة، تقدماً لا يفتّ في عضد قوات الأسد المنهارة فحسب، لكنه يشعل الخلاف داخل صفوف القوى الأجنبية التي تحارب اليوم، وحدها تقريباً، ضد كل الشعب السوري، لكسر إرادته وتمزيق أرضه وتقسيمه، وهي التي كان لها الموقع الأول في مفاوضات الهدنة، إيران وروسيا.
ما حصل هو، قبل كل شيء، فضيحة للمجتمع الدولي ومجلس الأمن الذي أصدر قراره رقم 2139 لفكّ الحصار، لكنه ترك النظام الغاشم يفرض إرادته، متحدياً كل عبارات التهديد التي وردت في القرار باتخاذ إجراءات عملية قاسية بحقه، إذا لم يتم التنفيذ، كما لو كان ينتظر أن يحصد النظام نتائج حصاره، قبل أن يتخذ أي قرار جدّي، بفتح أي ممرات آمنة، لتمرير المساعدات.
لكن مسؤولية كبيرة تقع، أيضاً، على المعارضة، التي شغلتها صراعاتها عن الاهتمام بمصير حمص، وبشكل أقوى، على القيادة العسكرية التي اكتفت بتوزيع المساعدات المالية، وربما تقديم بعض السلاح، من دون أن تجهد لوضع الخطط العسكرية، وتنظيم الكتائب المقاتلة في المدينة وريفها، وتركت الموضوع لناشطين مدنيين، مشتتين في أكثر من مكان ولا خبرة لهم. وتقع مسؤولية أكبر، أيضاً، على قادة الكتائب المقاتلة في جبهة حمص التي استمرت في العمل، من دون تخطيط ولا تعاون، وفشلت في أن تنظم عملها ضمن جبهة حقيقية، تدعم بعضها بعضاً.
ليست هذه المرة الأولى التي تفقد فيها المعارضة موقعاً مهماً، ولم يكن انسحاب الثوار المحاصرين في حمص مفاجئاً، فمحدودية الدعم بالسلاح والذخيرة، نتيجة رفض المجتمع الدولي، والولايات المتحدة خصوصاً، السماح للثورة بحسم عسكري، وبطء عملية إعادة هيكلة الكتائب المقاتلة تحت قيادة عسكرية مركزية محترفة، ومرتبطة بالأرض، قدّما هدية كبيرة للنظام، بالإضافة إلى الانخراط المتزايد في القتال لقوات لبنانية وعراقية وإيرانية في الحرب.
مع ذلك، لن يزعزع هذا الحدث من إيمان أي مقاتل، بل أي سوري، بأن بشار الأسد لن يستطيع، مهما فعل، أن يعيد عقارب الساعة إلى الوراء، وأن يحقق الحلم المجنون الذي قاده، كما قاد قبله أدولف هتلر إلى تدمير بلده ونكبة شعبه، في استعادة السيطرة على سورية وتحويلها، كما كانت قبل الثورة، إلى ملك عضوض له ولأبنائه. ولن يشك أحد بأن النصر سيكون في النهاية، على الرغم من التعطيل المتعمد، والتآمر الواسع على حقوق السوريين وحرياتهم وسيادتهم، للشعب الذي أظهر من البطولة والفداء والإصرار ما أذهل العالم، وأجبر الدول الكبرى، بعد التردد الطويل، إلى تغيير سياساتها والخروج عن صمتها.
لكن، حتى يتحقق ذلك، ينبغي للسوريين أن يجعلوا من درس حمص الأليم حافزاً من أجل إحداث ثورة حقيقية داخل الثورة، تحررها من عثراتها، ومن الشوائب والطحالب التي علقت فيها، وأصبحت تعيق حركتها، وتعيد تواصلها مع الشعب، وتنظيم صفوفها وعملها، على الصعيد العسكري والسياسي والشعبي، على أسس جديدة فعالة، تمكنها من استعادة السيطرة على حمص وجميع مناطق سورية المحتلة، ورمي نظام العنف والحرب والتمييز والأنانية والحقد إلى المكان الوحيد الذي يستحقه. وهذا هو المنحى المنطقي والأخلاقي الوحيد الذي يتسق مع روح العدالة والتاريخ.