كوردستريت|| #آراء وقضايا
بقلم: د. عدنان بوزان
تشكل الغارات الإسرائيلية الأخيرة على العاصمة اللبنانية بيروت تطوراً نوعياً في سياق التصعيد الإقليمي، حيث تأتي ضمن سلسلة من الأحداث ذات الأبعاد الاستراتيجية التي تتجاوز البعد العسكري المباشر. هذه الغارات ليست مجرد رسالة عسكرية موجهة إلى الأطراف المحلية أو الإقليمية، بل تحمل في طياتها إشارات واضحة إلى الإدارة الأمريكية المقبلة بقيادة دونالد ترامب، المتوقع أن يتسلم مهامه في يناير المقبل.
تهدف هذه الغارات إلى إيصال رسالة مزدوجة: أولاً، التأكيد على أن الملف اللبناني ما يزال عالقاً على طاولة المفاوضات الدولية ولم يُحسم بعد. هذا الملف، الذي يتشابك مع الوضع السوري، يمثل عنصراً أساسياً في الاستراتيجية الإسرائيلية الهادفة إلى تقويض النفوذ الإيراني في المنطقة. إسرائيل، من خلال عملياتها العسكرية، تسعى للتأكيد على ضرورة أخذ التوازنات الجديدة التي تعمل على فرضها بعين الاعتبار في أي تسوية دولية، وخصوصاً فيما يتعلق بإضعاف القوى المدعومة من إيران في لبنان وسوريا.
ثانياً، يمكن قراءة هذه الغارات كجزء من خطة إسرائيلية-أمريكية أوسع لعزل إيران وقطع نفوذها الممتد عبر “محور المقاومة” الذي يشمل طهران، دمشق، وبيروت. استهداف لبنان هنا يحمل دلالة واضحة على أنه يمثل نقطة ضعف استراتيجية يمكن استغلالها لإضعاف حزب الله، الذي يُعد العمود الفقري للنفوذ الإيراني في لبنان وسوريا. في الوقت ذاته، تشير هذه العمليات إلى مسعى إسرائيلي لتهيئة الساحة لتدخلات أوسع داخل سوريا، خصوصاً في مناطق الجنوب السوري.
الغارات الإسرائيلية تشير أيضاً إلى تحول استراتيجي يتمثل في محاولة عزل جنوب سوريا عن دمشق، من خلال تعزيز السيطرة على منطقة التنف الواقعة عند الحدود الأردنية-السورية. منطقة التنف تُعد موقعاً استراتيجياً حيوياً لأي قوة تسعى إلى تقويض التواصل بين إيران وحلفائها في سوريا ولبنان. السيطرة على هذه المنطقة قد تكون خطوة أولى نحو تقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ واضحة، مما يمهد الطريق لإنشاء كيان يُعرف بـ”الدويلة العلوية”، التي يُفترض أن تتركز في الساحل السوري وتمتد إلى شمال لبنان.
هذه التطورات تُعد جزءاً من جهود إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، حيث تسعى القوى الدولية والإقليمية إلى فرض وقائع جديدة تتماشى مع مصالحها الاستراتيجية. في حال تحقق سيناريو “الدويلة العلوية”، فستكون بمثابة كيان يهدف إلى حماية المصالح الروسية والإيرانية في الساحل السوري، مع تقليص نفوذ دمشق في المناطق الداخلية الأخرى. هذا السيناريو، رغم تعقيده، يخدم المصالح الإسرائيلية عبر إضعاف الدولة السورية وخلق حالة من التفكك الداخلي تعيق قدرة دمشق على مواجهة التهديدات الإسرائيلية.
التوقيت هنا لا يقل أهمية عن العمليات نفسها. الإدارة الأمريكية القادمة، التي تُعرف بدعمها المطلق لإسرائيل، قد تكون شريكاً استراتيجياً في هذه الخطط. الرسالة الإسرائيلية للإدارة القادمة واضحة: أي تفاهم أمريكي-إيراني جديد يجب أن يأخذ في الحسبان الخطوط الحمراء الإسرائيلية، وخصوصاً فيما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني ونفوذ طهران الإقليمي. الغارات الإسرائيلية تأتي كإشارة إلى أن تدخلها المباشر في سوريا ولبنان جزء لا يتجزأ من استراتيجيتها الدفاعية التي لا تقبل المساومة.
من جهة أخرى، قد تُمهّد هذه الغارات لتصعيد أوسع في المنطقة، لا سيما إذا ما اعتُبرت استفزازاً مباشراً للقوى الحليفة لإيران. حزب الله، باعتباره القوة الأبرز في لبنان، قد يجد نفسه مضطراً للرد، مما قد يؤدي إلى تصعيد عسكري واسع النطاق. ومع ذلك، فإن إسرائيل قد ترى في هذا التصعيد فرصة لتعزيز سياسة الردع الخاصة بها ومنع أي تحركات مستقبلية من قبل حزب الله أو إيران.
في الختام، الغارات الإسرائيلية على بيروت ليست مجرد عمليات عسكرية عابرة، بل تمثل جزءاً من استراتيجية إقليمية تهدف إلى إعادة صياغة التوازنات في الشرق الأوسط. الهدف المركزي يتمثل في تقويض النفوذ الإيراني في لبنان وسوريا وفرض واقع جديد يُمهّد لتقسيم سوريا إلى مناطق نفوذ، ما يعزز المصالح الإسرائيلية ويُرسخ هيمنتها العسكرية والسياسية في المنطقة.