وقت نشر هذا المقال ربما تكون معركة عين العرب (كوباني) على الحدود السورية – التركية، قد وصلت إلى نهايتها المنطقية، وهي فشل «داعش» في الاستيلاء على المدينة. كان الفارق قيد شعرة بين اكتساح المدينة كلها وتدميرها من قبل قوات «داعش» الإرهابية، وما بين دفع هذه القوات إلى خارجها من قبل المدافعين عن المدينة، ولكن الضربات الجوية التي وجهتها الولايات المتحدة وحلفاؤها، تمكنت من قلب الميزان في هذه المعركة على الأقل، أما الحرب فلا يزال أمامها طريق طويل. فقد ثبت أن التراجع لدي «داعش» يعني أن الهدف صار من الصلابة؛ بحيث يصعب اغتصابه، وإخضاعه، وذبح رجاله، وتدمير بيوته، وسبي نسائه؛ ولذا فإن الحركة تكون في اتجاه آخر أكثر رخاوة أو يبدو كذلك، فكان الهجوم على بغداد والتوسع في المناطق غير كثيفة السكان في محافظة الأنبار العراقية. وهكذا فإن «داعش» لن تتوقف، وهي لن تسعى فقط لتثبيت وتوسيع مواقعها في العراق وسوريا، ولكنها تدرك أنها مصدر إلهام وقدوة لمنظمات مشابهة تحاول تحقيق الأهداف نفسها في درنة الليبية، أو سيناء المصرية، أو مواقع أخرى في جنوب تونس والجزائر والمغرب والصحراء الأفريقية الكبرى؛ مما يساعد «داعش» حتى الآن، ليس تصميمها ولا مرونتها، ولكن لأن خصومها لم يستقروا بعد على تحديد الاستراتيجية الملائمة للتعامل معها ومع استراتيجيتها القائمة على استخدام التطرف والعنف والإرهاب لكي تشمل أفكارها كل أنحاء العالم الإسلامي.
ولأن هذه الاستراتيجية تبدو من وحي الخيال وقادمة من عصور قديمة، فإن أخذها بالجدية اللازمة لا يزال غير وارد، ولم تكن هذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يأخذ العالم خطرا كبيرا بما يكفي من الجدية؛ فقد حدث ذلك مع النازية والفاشية التي بدأت في شكل أفكار ضحك عليها العالم، وعندما تحولت إلى منظمات لا تخفي أهدافها وعنصريتها استخفت بهم الدنيا، وحتى لما صار الأمر عمليات اختبار عنيفة جرى التصور أن المسألة كلها لا تزيد عن حالة من التهور، بعد ذلك استيقظت دول وأمم على خطر مقيم وحالٍ ولا يتورع عن القتل والمذابح الجماعية. الولايات المتحدة شعرت بالخطر، ولكنها لم تعطه ما يكفي من الجدية، فكان قرار الاستخدام «المحدود» للقوة الجوية، مع الإصرار منذ البداية على عدم استخدام قوات أرضية. وهكذا قام التحالف الدولي والإقليمي المصاحب له على ضربات جوية مع ترك الجهود الأرضية للقوات العراقية التي عانت طوال السنوات الماضية، وقوات البيشمركة التي تقاعدت طوال الأعوام السابقة. كل هذه خطوات محمودة، ولكنها لا تكفي للتعامل مع الخطر أو أنها تعبر عن المعرفة بالمدى الذي وصل إليه من الوحشية والبربرية التي يختزنها لأيام وسنوات قادمة، والتي باتت تجتذب حتى مقاتلين من «كوسوفو» التي قامت الولايات المتحدة بإنقاذها من القوة الصربية.
نتيجة هذا الخلل في الاستراتيجية ظهر المشهد التركي البائس أثناء المعركة حينما وقفت الدبابات التركية على الحدود بينما كانت عمليات الذبح الجماعي تجري في أحياء دخلتها «داعش» في «عين العرب»، وبينما مئات الألوف من العرب والأكراد يتركون ديارهم إلى حيث كانت تنتظرهم القوات التركية لكي تبحث في مَن منهم ينتمي إلى حزب عبد الله أوجلان.
وفي صحيفة الـ«واشنطن بوست» بتاريخ 17 أكتوبر (تشرين الأول) الحالي، أعلن فريد زكريا فساد نظرية «الانتصار» على «داعش» في إطار المعطيات الموجودة، مقترحا كبديل لها نظرية «الاحتواء»، أي التسليم لـ«داعش» بما حصلت عليه، ومنعها من التوسع لما هو أكثر من ذلك. «الاحتواء Containment» جرى استخدامها من قبل الغرب مع الاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية وحتى سقوط حائط برلين عام 1989، ولكن الاتحاد السوفياتي كان إمبراطورية كبرى تضم 15 جمهورية كلها تدور حول إمبراطورية روسيا التاريخية؛ وهؤلاء جميعا داروا حول آيديولوجيا كونية استولت على شرق ووسط أوروبا حتى حدود ألمانيا وتواجدت في شرق آسيا، وخلبت ألبابا وعقولا في العالم، وقبل هذا وبعده تمتلك أسلحة نووية. «داعش» بالتأكيد ليس كذلك، ولكنه يمثل مجموعات من البؤر المماثلة في أنحاء العالم، ومن ثم فإنه أشبه بالخلايا السرطانية التي لا توجد طريقة للتعامل معها سوى بالجراحة.
في مثل هذه النوعية من الحرب، فإن هناك مجموعة من الأمور التي يجب مراعاتها لوضع استراتيجية ناجحة ومنتصرة، أولها: إدراك طبيعة العدو، وإذا كان يتنقل بين جبهات عدة في مرونة فائقة محققا انتصارات، إذا لم تحدث في «عين العرب – كوباني»، فإنها يمكن أن تحدث في درنة، ومن ثم وجب حرمانه من هذه الميزة، فربما لا تكون جبهة «دولة الخلافة» هي الجبهة المناسبة للهجوم، وإنما جبهات أخرى يمكن الخلاص منها بشكل سريع، ومن ثم حرمان «داعش» من مدد البشر، ومن فتح جبهات أخرى وقت ما يريد. وثانيها: أن الزمن لا يعمل بالضرورة لصالح «داعش»، ولكنه يعمل لصالح من يجتهد في جعله خصما من الخصوم، وليس إضافة له؛ ومن ثم تسقط مراهنة «داعش» على الوهن التدريجي للتحالف الدولي والإقليمي. وثالثها: أن توازن القوى وفق كل المعايير ليس لصالح «داعش»، ولكنه يكون كذلك إذا ما نجحت في أن يكون توازن القوي العملياتي – أي في ميدان ما – لصالحه، مثل ذلك ينبغي حرمانها منه ليس فقط بالمعارك الدفاعية عن مدن وقرى، وإنما بمعارك هجومية خاصة خلال هذه المرحلة، قبل أن تنجح في خلق سلاح جوي أو الهيمنة على أسلحة كيماوية، وكلاهما متاح من مصادر عراقية وسورية. ورابعها: أن «داعش» حتى الآن ناجحة في استخدام الواقع السياسي في العراق وسوريا، فضلا عن دول أخرى في المنطقة، لكي تبقي التحالف الدولي والإقليمي في حالة من الاضطراب بين أهداف متناقضة ما بين القضاء على «داعش» والقضاء على بشار الأسد، وما بين مواجهة «داعش»، وهيمنة «الشيعة» على الحكم في العراق.
بالطبع، فإن مزيدا من التفكير الاستراتيجي ضروري، ولكن الحرب ليست مجموعة من المعارك المتفرقة، ولكنها منظومة متكاملة لكسر إرادة الخصم وتغيير سلوكه، ويصبح ذلك أكثر من ضروري عندما تكون حالة الخصم لا تسمح لا بالاحتواء، ولا بالتفاوض، ولا بالمساومة، ولا بالبحث عن أرضية مشتركة. فإذا كانت هناك رسالة جاءت من «داعش» خلال الفترة الماضية، فهي أنها عازمة على القتل حتى النهاية.
الشرق الاوسط