
كوردستريت|| #آراء وقضايا
بقلم تغريد بو مرعي| كاتبة لبنانية مقيمة في البرازيل
تعتبر الرواية من أكثر الأجناس الأدبية قدرةً على توثيق الأحداث التاريخية والاجتماعية، حيث تجمع بين البعد الفني والسردي وبين عمق الطرح الإنساني والفكري. وتكتسب الروايات التي تتناول الحروب والصراعات أهميةً خاصة، إذ لا تكتفي برصد الأحداث السياسية والعسكرية، بل تنفذ إلى داخل المجتمعات، وتُظهر التحولات التي تطرأ على الأفراد والعلاقات، وكيف تتحطم القيم أمام واقع العنف والدمار. ومن بين هذه الأعمال، تأتي رواية مدائن الربّ للكاتبة هند زيتوني، التي تحاول تقديم صورة بانورامية للحرب السورية، بما فيها من تشظٍ وانقسامات، عبر شخصيات تعيش أقداراً مختلفة، تتقاطع جميعها في الألم والمعاناة.
تنطلق الرواية من عام 2011، حين اندلعت الثورة السورية التي تحولت لاحقاً إلى حرب مدمرة غيرت وجه البلاد، وأعادت تشكيل مصائر البشر والجغرافيا. أبطال الرواية ليسوا مجرد شخصيات خيالية، بل هم انعكاسات لحالات إنسانية عايشت تلك الكارثة. يتصدر المشهد الشاب طلال، الذي يفقد والده وعمله، فيجد نفسه مضطراً للعمل في وكر دعارة تديره امرأة تُدعى سهير. عبر هذه العلاقة، تسلط الرواية الضوء على جانبٍ آخر من تداعيات الحرب، حيث تزداد تجارة الأجساد تحت وطأة الفقر والحاجة، ويصبح استغلال النساء ممارسةً ممنهجة في زمن الفوضى.
ورغم وجود طلال في هذا العالم الغارق في الاستغلال، إلا أنه يجد الحب مع ليال، الفتاة العشرينية التي ساقتها الظروف للعمل في ذلك المكان. هذا الحب، الذي ينشأ في أكثر البيئات قتامةً، يمنح الرواية بعداً إنسانياً، ويكشف كيف يمكن للمشاعر أن تزدهر حتى وسط الدمار. لكن هذا الحلم العاطفي لا يلبث أن يتحطم، حين يهاجم شقيق طلال الأصغر، صفوان، وكر الدعارة مع جماعته المسلحة، ويحرقه، ما يؤدي إلى اختفاء ليال، تاركاً طلال في دوامة من الحيرة والأسى.
يمثل صفوان نموذجاً آخر من النماذج التي أفرزتها الحرب، فهو الشاب الذي انخرط في صفوف الجماعات المتشددة، مقتنعاً بأنه يقاتل لتحرير بلاده من الاستبداد. لكن الرواية لا تقدم صورة نمطية لهذه الشخصيات، بل تحاول أن تفهم الدوافع التي قادته إلى هذا المسار، وكيف تتحول القناعات في ظل القمع والتهميش والدمار. أما الأخ الأوسط، سليم، فقد اختفى في السجون، مصيرٌ أصبح شائعاً لكل شاب اشتُبه في مشاركته بالمظاهرات. وهكذا، تتفرق العائلة السورية، كما تفرقت آلاف العائلات في واقع الحرب، بين المنفى والموت والسجون والانتماءات المتناقضة.
يبرز في الرواية أيضاً صوت النساء، من خلال الشخصيات النسائية المتعددة، مثل سعاد، الأخت الكبرى التي تكتب مذكراتها وترسلها إلى شقيقتها مريم التي استقرت في هولندا، في محاولة لفهم واقعها الممزق بين الرغبة في البقاء والخوف من الموت. أما سمية، فتمثل نموذج المرأة التي تعاني من العنف الزوجي في زمن الحرب، حيث يتحول الرجل نفسه، الذي يُفترض أن يكون ملاذاً، إلى مصدر للقهر. وعندما تلد في أحد الملاجئ، بين المقهورين من جميع الطوائف، تصبح ولادتها رمزاً لاستمرار الحياة رغم الدمار. سمراء، الأخت الصغرى، تهرب بدورها من زوجها القاسي، محاولة البحث عن حياة أكثر أماناً، لكن هل هناك أمانٌ في بلاد تحترق؟
ما يجعل الرواية مميزة هو أنها لا تسير وفق خط زمني مستقيم، بل تتنقل بين الأحداث، كما لو كانت ترسم فسيفساء للحرب السورية، حيث يتداخل الزمن مع الأمكنة، وتتداخل الحكايات مع المآسي الفردية والجماعية. وتستخدم الكاتبة أسلوب الرسائل واليوميات، حيث تعكس رسائل مريم لشقيقتها التحولات التي مرت بها، من امرأة خائفة إلى امرأة مستقلة ترفض الخضوع لأي سلطة ذكورية.
عنوان الرواية يحمل بعداً رمزياً عميقاً، إذ يشير إلى “مدائن الربّ”، التي قد تُفهم على أنها المدن السورية التي تحولت إلى أطلال، تماماً كما حدث مع مدائن عاد وثمود، أو ربما تحمل في طياتها إدانة لتلك الجماعات التي دمرت المدن باسم الدين. هذه الازدواجية في التفسير تعكس البعد الفلسفي العميق للرواية، حيث تطرح تساؤلات حول مصير الشعوب التي تنهار أمام الطغيان والتطرف معاً.
من خلال الشخصيات المختلفة، تقدم الرواية رؤية نقدية للحرب، فلا هي تبرّئ طرفاً، ولا تنتصر لآخر، بل ترصد الكارثة بكل أبعادها. إنها شهادة أدبية على مرحلة من التاريخ العربي، حيث لا يوجد رابح في المعركة، بل الجميع خاسرون، والوطن نفسه لم يعد سوى خرابٍ وذاكرة.
مدائن الربّ ليست مجرد رواية عن الحرب السورية، بل هي تأمل في المصائر البشرية حين تتحكم فيها الفوضى والعنف. إنها دعوة للتفكير في معنى الوطن، في معنى النجاة، وفي ثقل الذاكرة التي تظل تلاحق الإنسان أينما ذهب، حتى وإن غادر المكان.