كوردستريت|| #الصحافة
كانت أجهزة الاستخبارات تقضي وقتها في محاولة الحصول على أسرار الآخرين، وحماية أسرارها الخاصة، والانخراط في أنشطة سرية، وكانت التكنولوجيا جزءا لا يتجزأ من هذا الأمر حتى أصبحت الاستخبارات “آلية وصناعية”، ثم مستهلكا نهما لأعلى التقنيات المتاحة، ولكن أدوات التجسس العالمية تغيرت مع تغير العالم الذي يتم استخدامها فيه.
لإلقاء الضوء على هذا الموضوع، انطلقت مجلة إيكونوميست من اكتشاف محللي الاستخبارات قبل بضع سنوات أن كاميرات المراقبة المتصلة بالإنترنت في تايوان وكوريا الجنوبية كانت تتصل، لسبب غير مفهوم، بأجزاء حيوية من شبكة الكهرباء الهندية.
وأوضحت المجلة -في مقال للباحث بمعهد لندن الملكي شاشانك جوشي- أن هذا الاتصال الغريب تبين أنه طريق ملتو متعمد، كان الجواسيس الصينيون يتواصلون من خلاله مع برامج ضارة دفنوها سابقا عميقا داخل أجزاء مهمة من الشبكة الهندية من المفترض أنها للتمكن من التخريب في المستقبل.
وقد اكتشف هذا الاتصال، محللون أثناء قيامهم بمسح الإنترنت للبحث عن عقد “القيادة والتحكم” التي يستخدمها المتسللون كنقاط انطلاق لضحاياهم، مما يعني أن الكشف عن هذا الهجوم لم يكن من قبل وكالة استخبارات هندية ولا غربية، ولكن من قبل شركة “ريكورد فيوتشر” الأميركية، حسب الكاتب.
وأشار الكاتب إلى أن الاختراق الصيني واكتشافه، كان نموذجا مصغرا للذكاء الحديث، حيث الإنترنت والأجهزة المتصلة به موجودة في كل مكان، مما يوفر فرصا وافرة للمراقبة والفخاخ والعمليات السرية.
وليست الكاميرات الموجودة في تايوان وكوريا الجنوبية سوى جزء من أكثر من مليار كاميرا تم تركيبها على مستوى العالم، وهي جزء من شبكة متنامية من المراقبة التقنية التي جعلت الحياة أكثر صعوبة بالنسبة لضباط المخابرات والعملاء الذين يتعين عليهم تجنيدهم.
وكان أول حاسوب قابل للبرمجة قد تم تطويره لكسر الرموز النازية، كما أدى ظهور أقمار التجسس إلى كشف سطح الأرض، وبالتالي غيرت الأدوات المتطورة، مثل الترانزستورات المصغرة والحبر السري المستمدة من صناعة البلاستيك الناشئة، كيفية عمل الذكاء البشري.
وفي ذلك الوقت، كما هو الحال الآن، كانت بعض هذه التكنولوجيا تأتي من خارج عالم الجواسيس، وبالفعل عندما عقدت وكالة المخابرات المركزية (السي آي إيه) إحدى أولى ندواتها حول الذكاء الاصطناعي في عام 1983، كان فيها عرض للبائعين، حيث كانت أجهزة الحاسوب العملاقة وطائرات التجسس والأقمار الصناعية مشاريع نخبوية، تُستخدم في الغالب للتجسس على عالم لا يمتلك تلك التكنولوجيا.
أما الأمر المختلف اليوم -حسب شاشانك جوشي- فهو أن التكنولوجيا الرقمية قد تسربت إلى كل ركن من أركان الحياة، حيث يوجد الآن 8.5 مليارات هاتف ذكي في جميع أنحاء العالم، وهي جزء من ثورة الإلكترونيات الدقيقة التي انخفضت فيها تكلفة الكاميرات والميكروفونات وأجهزة استقبال نظام تحديد المواقع العالمي وأجهزة الاستشعار الأخرى.
ومع ارتفاع معدل انتشار الإنترنت على مستوى العالم من 35% إلى 67%، تم ربط أجهزة الاستشعار هذه، في الهواتف وأجهزة الحاسوب والسيارات وأجهزة التلفزيون، معا، مما أدى إلى إنشاء مصانع استخباراتية في كل جيب وفي كل شارع، وأصبحت الخوارزميات والقدرة الحاسوبية اللازمة لفهم سيل البيانات أكثر قدرة وكفاءة بشكل كبير.
وقد غيّر هذا الانتشار الأشياء التي يهتم بها الجواسيس، لأن أجهزة الاستخبارات ليست مكلفة فقط بمراقبة التكنولوجيا التي يستخدمها منافسوها، ولكن بكيفية استخدامها، ولذلك تشعر أجهزة الأمن الغربية بالقلق من أن النفوذ الصيني على المنتجات المتصلة بالإنترنت، من تيك توك إلى أجهزة التوجيه إلى السيارات ذاتية القيادة، يمكن أن يصبح أدوات لجمع البيانات أو التدخل السياسي أو التخريب في زمن الحرب.
وبالإضافة إلى تغير ما يمكن التجسس عليه، تغيرت أيضا كيفية عمل الجواسيس، وأصبحت العمليات أكثر صعوبة، إذ إن نمو “المراقبة الفنية في كل مكان” جعل من الصعب إخفاء هويات ضباط المخابرات، ومن الصعب عليهم السفر تحت أسماء مستعارة، ومن الصعب عليهم مقابلة العملاء دون القبض عليهم، لأن التدقيق أصبح أكثر فعالية وأكثر انتشارا وأكثر عدائية بعد أن صدرت الصين تكنولوجيا المراقبة إلى جميع أنحاء العالم.
وأشار شاشانك جوشي إلى أن هذه ليست مجرد ألعاب غامضة للتجسس ضد التجسس، موضحا أن غزو حركة المقاومة الإسلامية (حماس) لإسرائيل في السابع من أكتوبر/تشرين الأول كشف عن عواقب الفشل الاستخباراتي.
وخلص إلى أن هذه التكنولوجيا تظهر كيفية تأثير “المراقبة الفنية في كل مكان” وطوفان البيانات والتقدم في الذكاء الاصطناعي، على كل فرع من فروع التجسس، بدءا من المحللين الجغرافيين الذين يجب عليهم الخوض في كومة متزايدة من صور الأقمار الصناعية، ثم الوكالات المهمة التي يجب عليها التنصت على عالم مشفر إلى حد كبير، حسب “الجزيرة نت”.