كوردستريت || الصحافة
نشرت مجلة The American Concervative مقالا يحمل عنوان “توقفوا عن إراقة الدماء في أوكرانيا” بقلم دوغ باندو.
ودوغ باندو هو من كبار الزملاء في معهد كاتو، وكان مساعدا خاصا سابقا للرئيس رونالد ريغان، وصاحب كتاب “الحماقات الخارجية: إمبراطورية أمريكان العالمية الجديدة”.
وجاء في المقال: تستمر الحرب الروسية الأوكرانية، فيما أدى هجوم أوكراني مفترض بطائرة مسيرة على الكرملين إلى تأجيج خطاب التصعيد إن لم يكن القتال. أصبحت تكاليف الصراع رهيبة، يتحملها الأوكرانيون في المقام الأول، فأوكرانيا هي الساحة الرئيسية للمعركة.
لا نهاية في الأفق للقتال الدائر، والهجوم الروسي لا يزال محلك سر، ما لم يكن الكرملين قد حشد سرا جيشا ضخما سوف ينتشر قريبا. والتقييمات الغربية لرد كييف المخطط له لا زالت في انتظار المزيد: يخاف المرء من أن جهود أوكرانيا قد “تفشل” في تحقيق أهداف كييف الأصلية مع نقص القوى البشرية وانخفاض مخزون الأسلحة من الحلفاء بشكل خطير، ويبدو من غير المرجح أن تهزم أوكرانيا روسيا.
بالتالي، فإن دعم الحرب حتى تستعيد حكومة زيلينسكي الأراضي التي خسرتها ليس فقط العام الماضي، ولكن كذلك في عام 2014، يخاطر بإرهاق أوكراني فمأزق فهزيمة. تؤكد الولايات المتحدة الأمريكية على أن أوكرانيا وحدها صاحبة الحق في تحديد إلى متى تريد القتال، إلا أنه يتعيّن على واشنطن ألا تشجع أوكرانيا، ناهيك عن تمكينها لخوض معركة بلا جدوى، مهما كانت شجاعتها. فإطالة أمد الحرب يهدد بالتوسع والتصعيد بمشاركة الولايات المتحدة.
ومع ذلك، لا يزال عدد كبير من صقور الحرب الأمريكيين مصممين على انتصار أوكرانيا. قد يكون ذلك مرضيا لكثيرين، فقد بدأت موسكو الحرب، على الرغم من أن سياسات الحلفاء المتهورة والمستهترة هي ما لعبت الدور المساهم الرئيسي في استفزاز موسكو، إلا أن مثل هذا المسار سيعرض الشعب الأمريكي للخطر، وهو ما يجب أن تضعه واشنطن نصب عينيها كمسؤولية أساسية.
فبداية، أوكرانيا ليست مهمة بالنسبة للولايات المتحدة الأمريكية، ناهيك عن كونها دولة حيوية بالأساس بالنسبة لها. لكن السيادة الأوكرانية لا بد وأن تحترم، إلا أن هذا لا يضمن عدم تورط الولايات المتحدة في حرب ساخنة أو باردة مع روسيا. فوجود علاقة سلمية مستقرة بين كييف وموسكو من شأنه أن يفيد شرق أوروبا، وواشنطن بشكل غير مباشر، إلا أن سلامة الولايات المتحدة تهم أكثر من ذلك بكثير.
ربما تكون هناك قيمة ما في معاقبة الحكومة التي تشارك في عدوان إجرامي، ومع ذلك، فإن واشنطن التي تتنكر في شكل ملاك منتقم من المرجح أن تعرض الأمريكيين للخطر أكثر من حمايتهم. فالولايات المتحدة، بالتأكيد، لا تتمتع بالمصداقية التي تؤهلها للعب هذا الدور، كونها مسؤولة عن مقتل مدنيين أكثر بكثير من موسكو في السنوات الأخيرة، فقد مات بسببها مئات الآلاف من العراقيين والليبيين واليمنيين حرفيا.
هناك مصالح إنسانية على المحك، ولكن ليس أكثر من عدد من النزاعات الأخرى التي تتجاهلها واشنطن أو أحيانا ما تغذيها، كما هو الحال في اليمن على سبيل المثال. ولا يتم تصحيح كل خطأ داخل الولايات المتحدة أيضا بأوامر الحكومة. والأهم من ذلك، أن الحفاظ على سبب وجيه يمكن أن يصبح عملا غير أخلاقي إذا كان القيام به يطيل من عذاب المرء ويزيد من فرصة حدوث كارثة جيوسياسية.
فدعم السيادة الأوكرانية يتطلب مستوى معينا من المساعدات العسكرية لأوكرانيا وفرض عقوبات على الدولة الروسية، إلا أن مثل هذه الإجراءات يجب أن تقاس وتتناسب مع مصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الصراع. وبنفس القدر من الأهمية، يجب أن تكون أولوية واشنطن هي إنهاء الحرب وتعزيز طريقة مؤقتة تعترف بمخاوف موسكو وكييف الأمنية. السؤال هنا هو ليست ما تعتقد الولايات المتحدة الأمريكية أنه يرضي الشعب الروسي، بل ما يمكن أن يرضي الشعب الروسي بالفعل. خلافا لذلك، فإن الولايات المتحدة تخاطر بإضفاء الطابع المؤسسي على الصراع بدلا من القضاء عليه.
لسوء الحظ، لا تزال السياسة الأمريكية تحت سيطرة دعاة الحرب إلى الأبد، وكثير منهم أيد من قبل التدخلات العسكرية الأمريكية غير القانونية المتكررة في جميع أنحاء العالم. أصحاب الخطابات الرنانة، إلا أن منطقهم معيب وخطير. ولعل الاعتراف بضعف محاولتهم لبيع الحرب على أنها حرب صليبية أخلاقية، هو ما يدفع بعض هؤلاء الصقور إلى زعم أن النصر أمر حيوي لأمن أوروبا وبالتالي الولايات المتحدة الأمريكية. ومع ذلك، فإن هذه الحجة كانت غير سليمة حتى قبل أن تبدأ موسكو غزوها لأوكرانيا.
قد يكون فلاديمير بوتين حاكم استبدادي لا يرحم، إلا أنه لم يحاول إعادة تشكيل الاتحاد السوفيتي، ناهيك عن غزو أوروبا. والواقع أن عهده بدأ بميله على نحو إيجابي نحو الحلفاء، فعرض دعمه للولايات المتحدة الأمريكية بعد 11 سبتمبر، وتحدث عن التعاون أمام البوندستاغ الألماني، وحتى بعد توتر العلاقات، كانت شراسته محدودة للغاية، وتعكس في الغالب المشاعر الانفصالية في جورجيا وأوكرانيا. وبعد الحرب الباردة، كانت أوكرانيا دائما أهم مخاوفه الأمنية.
وحتى لو كان لدى موسكو نوايا خبيثة أوسع، فإنها تفتقر إلى الوسائل اللازمة لتنفيذها. واعتماد أوروبا الدفاعي على الولايات المتحدة هو مسألة اختيار وليست إجبار، حيث يتمتع الأوروبيون بإجمالي ناتج محلي جماعي يبلغ عشرة أضعاف، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 3 أضعاف سكان روسيا. بمعنى أن الحلفاء يفضلون ببساطة السماح لواشنطن بالقيام بهذه الأعمال نيابة عنهم، حتى يتفرغوا للاستثمار بشكل أكبر في الرفاهية لشعوبهم. وبعد أكثر من عام على الحرب، من يتخيل جحافل روسيا تتدفق عبر بولندا إلى ألمانيا او فرنسا، وتصل في النهاية إلى المحيط الأطلسي؟ قد يصلح ذلك سيناريو فيلم “ريد دان” Red Dawn آخر، لكنه ليس أكثر مصداقية من السيناريوهات التي تُظهِر كوبا أو كوريا الشمالية في سبيلها لغزو الولايات المتحدة.
وبدافع اليأس، زاد بعض دعاة الحرب الأبدية من تصعيد المخاطر، وهم يؤكدون أن الفشل في عكس مسار الغزو يهدد “النظام القائم على القواعد” الذي يتبجحون به، فضلا عن الاستقرار والسلام العالميين. حتى أن وزير الخارجية أنتوني بلينكن استشهد بـ “المساواة في الحقوق بين الرجال والنساء وبين الدول كبيرها وصغيرها” من ميثاق الأمم المتحدة، وهي ادعاءات سخيفة للغاية. فلم يكن “النظام القائم على القواعد” مقدسا على الإطلاق، وأولئك الذين وضعوا القواعد، قاموا بخرقها على نحو روتيني خلال السنوات الأخيرة، ولم تنخرط أي دولة في كل الأوقات في أعمال عسكرية غير قانونية بتكلفة بشرية هائلة بقدر ما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية.
في الواقع، فقد أشار بوتين إلى إثارة الحرب في واشنطن في حديثه الشهير أمام مؤتمر ميونيخ للأمن، والترويج لحرب لا نهاية لها في أوكرانيا أمر خطير بشكل خاص لأن واشنطن تظل مسؤولة عن الدفاع عن أوروبا. وعلى الرغم من تعهد “الناتو” غير المدروس في عام 2008 بجلب أوكرانيا إلى الحلف، إلا أنها لم تفعل أيا من ذلك. ولم يكن الأعضاء الأوروبيون مستعدين للتضحية بمواطنيهم دفاعا عن كييف. ومع ذلك، فإن إدارة حرب غير مقنعة بالوكالة، حيث يناقش الحلفاء علنا أفضل السبل لقتل مزيد من الأفراد العسكريين الروس، قد تتحول إلى صراع واسع النطاق.
تحاول أوكرانيا، في واقع الأمر، بنشاط جر الولايات المتحدة إلى أتون المعركة، وتلقي باللوم على روسيا في هجومها الصاروخي على بولندا، نوفمبر الماضي، فيما تبدو بولندا ودول البلطيق، بخشيتهم المزعومة من الهجوم الروسي، ملتزمين بالحرب بنفس الدرجة. بالطبع، وفي أي صراع مع موسكو، ستتحمل الولايات المتحدة العبء الأعظم من بين الحلفاء. وقد يتجنب التبادل النووي العابر للقارات أوروبا بينما يدمر كلا من الولايات المتحدة وروسيا. بعد ذلك، سوف تخرج وارسو وتالين وكاوناس وريغا مهللين بصمود الأمريكيين بينما تحترق المدن الأمريكية.
يرفض المحللون المتشددون المخاوف من أن حكومة بوتين قد تستخدم الأسلحة النووية. وهي نفس الأشخاص التي شككت من قبل في استعدادها لغزو أوكرانيا. تجاهلوا الشكاوى الروسية القديمة بشأن توسع “الناتو”، ودعم تغيير النظام في جورجيا وأوكرانيا، والهجمات على يوغوسلافيا وليبيا. تصر النخبة السياسية الأمريكية على أنه لا يمكن لموسكو أن تخشى على أمنها على الرغم من أنها لن تتسامح أبدا مع السلوك الروسي المماثل في نصف الكرة الغربي.
إن هذا الموقف الرافض يقلل من أهمية رد فعل موسكو المحتمل على التهديد بالهزيمة، وفقدان شبه جزيرة القرم على وجه الخصوص. واقع الأمر هو أن بعض الأمريكيين والأوكرانيين والأوروبيين يريدون المزيد: إجراء محاكمات لجرائم الحرب، والإبقاء على العقوبات حتى بعد انتهاء الصراع، وحتى الترويج لتغيير النظام وانهيار الدولة الروسية. قد ترضي مثل هذه السياسات رغبة الأوكرانيين في الانتقام، إلا أنها قد تكون كارثية من الناحية العملية. إن هذه الاستراتيجية تحديدا هي ما ستثني موسكو عن إنهاء الحرب، وعلاوة على ذلك، فإن تحويل روسيا إلى يوغوسلافيا عملاقة، أو إلى كوريا الشمالية، مع وجود عدد أكبر من السكان، وثروة أكبر، وأسلحة تقليدية وفيرة، وترسانة نووية ضخمة، يمكن أن يكون الطريق إلى الكارثة.
كذلك فإن مزيدا من التورط للولايات المتحدة الأمريكية في الحرب الأوكرانية قد يؤدي إلى تعميق الانقسامات السياسية الأمريكية أيضا. ولا ينبغي لأحد أن يشكك في مرارة السياسة الأمريكية اليوم. بل من المرجح أن يزداد الوضع سوءا مع اقتراب البلاد من استعادة جو الانتخابات الرئاسية لعام 2020. فلنتأمل آثار الثورة الفرنسية، التي قيل إنها “جذبت حراثة شديدة عبر تاريخ الولايات المتحدة”. فمع تزايد قدرة الأمريكيين أو عدم رغبتهم في الحديث مع بعضهم البعض، لا ينبغي لواشنطن أن تضيف مزيدا من الوقود إلى نيران الحزبيين.
بدلا من ذلك، يتعين على صانعي السياسة استخدام الحرب بتعزيز مزيد من الأهداف للولايات المتحدة على نطاق أوسع، والأهم من ذلك نقل مسؤولية الدفاع عن أوروبا إلى أوروبا. لقد اعتمد الأوروبيون لفترة طويلة على الرفاهية العسكرية لواشنطن، وعلى الرغم من الوعود الوفيرة العام الماضي بتغيير سلوكها، إلا أن أداء الحكومات الأوروبية لا يزال باهتا. ومع ذلك، فإن بعض القوى العسكرية الأضعف في القارة يدقّون طبول الحرب بأعلى ما في وسعهم مدركين أن العبء الرئيسي للقتال سوف يقع على عاتق الولايات المتحدة الأمريكية. يجب على واشنطن أن توضح أن أي ضمانات مستقبلية لأمن كييف ستقع على عاتق الأوروبيين وليس على الولايات المتحدة.
تدفع أوكرانيا وأوروبا والعالم ثمن غطرسة الحلفاء وخاصة الولايات المتحدة الأمريكية في معاملة روسيا كقوة مهزومة. وقد أدى توسع “الناتو”، وغيرها من السياسات الأخرى التي تجاهلت مخاوف موسكو الأمنية، إلى ما حذر وتوقعه عدد من المحللين، وهو تحدي روسيا للنظام الدولي الناشئ. لا يزال بوتين يتحمل مسؤولية غزو أوكرانيا، إلا أنه في غياب تصرفات مثلما فعل الحلفاء، من شبه المؤكد أنه لم يكن ليفعل ذلك. الحرب الروسية الأوكرانية مروعة، إلا أنها ليست صراع الولايات المتحدة، ويجب على الإدارة أن تركز جهودها لإنهاء هذا الصراع.