كوردستريت–مقالات/ ما يُشاهد في الإعلام من صور للمقاتلات الكرديات، وما هن عليه من جمال وعذوبة، يوحي ظاهراً بأنهن يعشن رفاهاً وحياة رغيدة، وأن المجتمع الكردي الذي صدّرهن، يحيا أنماطاً من الحداثة مفارقة تماماً لما تعيشه المجتمعات المحيطة به. أما مقاتلو باقي الجبهات فيجمعون بين القسوة والجبروت والذكورة، حيث اللحى الطويلة والعيون الجاحظة والخطابات التكرارية، في مقابل المقاتلات الكرديات اللواتي يظهرن وديعات ومتبرجات، بجدائلهن الطويلة وعيونهن الكحيلة.
يخفي هذا «الانبهار» الإعلامي والبحثي والسياسي بهذه الصورة النمطية للمقاتلات الكرديات سؤالاً واجباً: ما الذي يدفع يافعات في ربيع أعمارهن الى حمل السلاح والقتال ببسالة لا توصف، متخليات عن أبسط الميول والانشغالات التي تغري غيرهن من مجايلاتهن، كعالم الموضة والأناقة وانشغالات كـ «الفايسبوك» مثلاً؟!.
ثمة دافع صلب وراء استمراء هؤلاء المقاتلات في قسوة القتال على رغم امتلاكهن سمات أكثر تماهياً مع أنوثتهن. فالكرديات هن التعبير الأكثر دقة عمّا مُورس على عموم المجتمع الكردي في الشرق الأوسط طوال القرن العشرين. ففيما كان جميع مجتمعات هذا الإقليم، من غير الأكراد، يتوجه لتحديث أنماط الحياة الاجتماعية وبناء المؤسسات الوطنية الدولتية والمعرفية والثقافية وتمتين الطبقة الوسطى، كان المجتمع الكردي يخوض حرباً ضروساً ضد أنظمة أيديولوجية-قومية بالغة القسوة، استنزفت معها النُخب الكردية «الرقيقة» وتهشمت الطبقة الوسطى، فأصاب الضمور كل المدن الكردية التقليدية وتريّفت الحياة العامة تماماً، فلجأت الأجيال الجديدة كافة إلى شبكات ضمان بديلة عن المجتمع المدني، كالعشائر أو الأحزاب القومية أو الجماعات المسلحة.
ومجموع تلك الأفعال والأحداث حفر في المجتمع الكردي وحول القسوة إلى دينامية مجتمعية شبه وحيدة. كل ذلك حدث تحت وطأة طلب الأكراد أن يُعترف بهم فحسب.
طوال هذه الفترة المديدة، تجاوزت مجتمعات هذه الدول، بنسب متفاوتة، الكثير من «الأوهام» التي دخلت بها إلى القرن الجديد، كالنزعة القومية الرومانسية والميول لتأسيس كيان قومي واحد، محققة نسباً معقولة من القضاء على الأمية والعشائرية والجهوية…الخ. لكن جميع تلك المعضلات الايديولوجية والثقافية والاجتماعية بقيت كامنة في قاع الوعي الجمعي الكردي، حيث جُيّرت تماماً لصالح خطاب قومي فوقي حاد ومسطح هو رد فعل على رُهاب وانعدام ثقة بكل المحيطين بهم مجتمعاتٍ وشعوباً.
وعكس الأكراد ذلك الرهاب في أحد شكلين للانكماش على الذات: فإما تكريس الأحزاب القومية النمطية، التي تستند على البنى العشائرية والدينية، مع زعامة مطلقة لعائلة بعينها، تسعى جاهدة للحفاظ على كافة التناقضات المجتمعية والسياسية وتكبح أية نزعة تحديثية للمجتمع. وقد شكلت العائلة البارزانية مثالاً نموذجياً عن ذلك. وكان مما ينجم عن ذلك وعن تراتبيته الصارمة تهميش مكانة المرأة ودورها، فهي مجرد جسد مادي وكتلة هلامية تسمى «الشرف». وقد غطى هذا النموذج أجزاء مهمة من المجتمع، ومع ديمومته غابت المرأة وحُجبت كتعبير مباشر عن غياب أية بذرة ممكنة للحداثة.
وعلى النقيض تماماً كان الشكل الآخر للانكماش عبر نمط العسكرة المجتمعية والأيديولوجية، وتكريس الزعيم-المفكر-النبي، الذي يتوجب على كافة أفراد المجتمع اتباع توجهاته وآرائه وخياراته، وصولاً الى خياراته الحياتية، وكان حزب العمال الكردستاني التعبير المباشر عن ذلك. فالمنتمي لهذا النموذج عليه أن يتخلى تقريباً عن كل انشغال حياتي خارج هذه العسكرة الأيديولوجية المجتمعية، نابذاً كل ما يخالف التماهي مع صورة ونمط القائد الأعلى. فالعنصر الأصلح هو، بالتالي، الأكثر تماثلاً مع صورة الكائن العسكري، الشيء الذي يعنى بمجموعه تذكير المجتمع (من ذكورة) وتهشيم كل ميل غير ذكوري.
فالقشرة الخادعة السطحية التي تظهر فيها النساء عبر ذاك النموذج لا تعني شيئاً تقريباً، لأن المكانة القيمية الأعلى هي للذكورة وأفعالها. فإذا كانت الأنثى ترغب في الاندماج بها والحصول على تلك الحظوة الرمزية كان عليها أن تتخلى عن كينونتها الأنثوية والتماهي مع هذا العالم الذكوري القاسي.
وفيما تظهر المقاتلات الكرديات اليوم فاتنات المظهر، يثور سؤال وجيه: هل التيار السياسي نفسه الذي يفتخر بوجود مقاتلات وسيمات في صفوفه، ومعه القاع الاجتماعي الفخور بهن، يسمحون لهؤلاء المقاتلات بممارسة أي من أدوارهن الأنثوية الأخرى بحرية؟!. هل يقبلان بأن تكون لإحدى هؤلاء أي سلوك تعبيري أو عملي آخر، هل كأن تكون إحداهن عارضة أزياء مثلاً؟.
ليس من قسوة، أفظع من أن يُسمح لك أن تكون مقاتلاً فحسب، وأن يكون القتال حريتك الوحيدة.