كوردستريت || الصحافة
نشر الكاتب السوري رامي الشاعر مقالا في صحيفة “زافترا” الروسية جاء فيه :انتهت الجمعة، 29 يناير، وقائع الجولة الخامسة من اجتماعات الهيئة المصغّرة للجنة الدستورية السورية التي استمرت في سويسرا منذ 25 يناير، دون إحراز أي تقدم.
بتاريخ 14 مارس 2015، أرسلت رسالة إلى الرئيس السوري، بشار الأسد، أتذكر أن مضمونها كان على النحو التالي:
“ينصح بعض الأصدقاء المختصّين بشؤون الشرق الأوسط بضرورة أن تكونوا، فخامة الرئيس، أصحاب المبادرة في اتخاذ خطوات عملية تفسح المجال للمعارضة كي تشارك في المشهد السياسي والحياة الاجتماعية، وأن تشجّعوا على إنعاش أجواء المصالحة الوطنية، وضمان حرية التعبير الديمقراطي، وفقاً لما تتطلبه ظروف المرحلة الجديدة التي أصبحنا شهوداً عليها في سوريا.
وأصبح من المهم، أكثر من أي وقت مضى، إصدار تعليماتكم للجهات المختصة، للبدء بحملة إعلامية توعوية موجّهة لكافة فئات الشعب السوري، تؤكّد على أهمية وضرورة البدء بعملية الانتقال السياسي السلمي والمشاركة الواسعة لتحقيقها”.
اليوم، وبعد 6 سنوات تقريباً من ذلك التاريخ، وبعد فشل الجولة الخامسة لاجتماع الهيئة المصغّرة للجنة الدستورية في جنيف، لم يعد خفيّاً على أحد أن القيادة في دمشق تتعمّد عرقلة سير عمل اللجنة، والمماطلة في محاولة لكسب الوقت والالتفاف حول إرادة المجتمع الدولي، دون الوضع في الاعتبار أي متغيرات وتطورات في المشهد السياسي الإقليمي والدولي والوضع الاقتصادي وحتى الوبائي، الذي طرأ على البلاد والعباد طوال هذه الأعوام.
وعلى الرغم من الاتفاق على منطقية وأهمية تلك المبادئ التي يرقى بعضها، فيما يخص الوفاء بتضحيات الشهداء، والدفاع عن التراب السوري ووحدة الأراضي، إلى رتبة التقديس. إلا أن للضرورة أحكام، خاصة إذا ما تعلّقت تلك الضرورة بحياة ملايين آخرين، يمكن أن يصبحوا ضحية للتشبث بالمواقف، والتعنت، والعرقلة. نعم، نحن نقدّر ونمجّد الشهداء، ولكن ما الحاجة إلى مزيد منهم، ومعاناة ملايين آخرين من الجوع والفقر والبرد والمرض، مقابل أحاديث نظرية، أجدها في هذه اللحظة الحرجة فارغة من المضمون، عن “السيادة الوطنية” و”العروبة”.
ما الحاجة إلى وطن دون مواطنين؟ بل ما الحاجة إلى وطن يطحن مواطنيه بدعاوى “ربط السيادة الوطنية بمحددات داخلية وخارجية تستند إلى استقلالية القرار الوطني ورفض الاحتلال والضغوطات الخارجية”.
نعم، هذه المبادئ منطقية وبديهية وجوهرية كأساس للدولة الحديثة، لكن الأهم منها، حياة المواطن، الإنسان، الذي سيعيش في هذه الدولة الحديثة.
تتّبع وفود دمشق خلال جميع الاجتماعات نهجاً واحداً لا يتغير، يبدو أنه يلتزم بتعليمات صارمة ومحددة سلفاً، تستند بشكل أساسي إلى عدم الاستجابة لأي من المبادرات، أو الخطوات التي تقوم بها الأطراف المقابلة، وكأنما تأتي الوفود مكبّلةً بقدسية الحفاظ على النظام بشكله الراهن، وعدم المساس به، والذهاب لمجرد التوقيع في سجلات الحضور، دون أدنى قناعة أو رغبة في السير خطوة واحدة لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، أو حتى مخرجات سوتشي للحوار السوري السوري، منذ 3 أعوام بالتمام والكمال (31 يناير 2018)!
هذه هي الحقيقة إذن. دمشق لا تتجاوب مع جهود موسكو وجهود هيئة الأمم المتحدة للبدء في تنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254، بل والأكثر من ذلك، أن هناك انطباع لدى القيادة في دمشق بأن روسيا مضطرة إلى الاستمرار بدعم ومساعدة النظام السوري، بعد أن تم القضاء على الإرهابيين والحفاظ على الدولة السورية، وساد الهدوء ونظام وقف إطلاق النار، ولم يعد للحليف الروسي أي خيار آخر، وإلا ستتحول سوريا بالنسبة لهم إلى مستنقع يغرقون فيه. بمعنى أن روسيا لم تعد تملك أي خيارات أخرى، لأن جميع الخيارات الأخرى أصبحت تشكّل تهديداً لمصالح روسيا في سوريا والشرق الأوسط، لذلك لم يعد أمام الروس سوى المضي قدماً فيما بدأوه، بدلاً من إهدار كل ما قدّمه من قبل.
بل إن هناك معلومات لدى بعض المقربين من القيادة في دمشق، مفادها أن وضع دمشق قد يكون أفضل مع مجيء الإدارة الجديدة للرئيس الأمريكي، جو بايدن، بل إن بعض شطحات الأفكار تذهب إلى أن مجرد إشارة من دمشق لواشنطن باستعداد الأولى التخلي عن الحليف الروسي لصالح دور أمريكي، سوف يجعل الأمريكيين يفكّرون جديّاً في إمكانية دعم النظام في دمشق والحفاظ عليه دون المساس به. من هنا تبدو بعض التسريبات بشأن اتصالات سرية بين دمشق وواشنطن وتل أبيب من خلال وسطاء مشبوهين منطقية.
ترى هل هناك من يراهن على دور أمريكي حقيقي وفاعل في دمشق؟ وهل هناك في دمشق بعد كل هذه السنوات، من لا يزال يثق في الولايات المتحدة الأمريكية؟
وهل تصب في ذلك الاتجاه كل تلك العراقيل، والمماطلة، والتنظيرات اللانهائية في قاعات المفاوضات بوضع بند السيادة كشرط للدخول في عملية صياغة الدستور، وطرح النقاش حول اسم الدولة ورمزيته، وتجاهل القضايا الدستورية الأساسية التي تمثل صلب عمل اللجنة الدستورية المصغّرة؟
لا إجابة عندي لتلك الأسئلة، وأظن أن الأيام وحدها كفيلة بذلك.
لكن المدهش حقاً أن تتجاهل دمشق الأوضاع اللاإنسانية المأساوية التي يعيشها غالبية الشعب السوري، وتتجاهل حقيقة أن حوالي 10 ملايين سوري يعتبرون الأتراك والأمريكيين حلفاء للمعارضة، ضامنين لأمنهم، ولهم دور في إنقاذهم من الإرهابيين، وليسوا محتلين كما تقول دمشق. بل إن غالبية ضباط الجيش السوري الحر، من الضباط الذين انشقّوا عن النظام، لهم رؤيتهم لبناء سوريا جديدة، ويرون كذلك أن النظام على شكله الحالي، المستمر منذ نصف قرن، ليس مستداماً أو قابلاً للحياة. لذلك فعلى دمشق أن تعي أن المسؤولية التي تقع على عاتق النظام الذي يمثّل الشعب السوري رسمياً، أن يرقى لدوره كطرف أساسي يجب أن يشارك بالحل السياسي للانتقال نحو سوريا جديدة، بحسب قرار مجلس الأمن رقم 2254، إلى جانب طرف آخر في المقابل، أساسي هو الآخر، ويمثل ما يزيد عن نصف الشعب السوري، ويجب أيضاً أن يشارك في بناء سوريا الجديدة.
ولن يتأتى ذلك سوى بدفع عملية الحوار السوري في جنيف، وتفعيل عمل اللجنة الدستورية، ودعم الجهود التي يبذلها المبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة، غير بيدرسون. ويجب أن تدرك دمشق أن كل القضايا الأخرى التي يتذرع بها النظام بشأن “تحرير البلاد من الاحتلالين التركي والأمريكي”، ومصير إدلب، وحتى الوضع الهش في جنوب البلاد الخاضع لسلطات دمشق، والمعرّض للانفجار في أي لحظة، لن تحلّ سوى بعملية الانتقال السياسي، وفقاً لقرار مجلس الأمن المذكور، والذي ينص على تعديل أو تغيير دستوري تليه انتخابات بمشاركة الجميع وبإشراف هيئة الأمم المتحدة.
لقد انتهى زمن الألاعيب السياسية والتحايل والمماطلة كسباً للوقت، والتفافاً حول جهود المجتمع الدولي. بل وانتهى وقت نصائح الأصدقاء، بعد أن أصبح الوقت المهدر في اجتماعات اللجنة الدستورية على حساب معاناة الملايين من السوريين.
نحن الآن في انتظار التقرير الذي سيرفعه المبعوث الأممي، غير بيدرسون، إلى الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة في التاسع من الشهر الجاري، وآمل أن يضع التقرير يده على حقائق الأطراف التي تتحمل تبعات إفشال أي تقدم في مسار صياغة الدستور، وأتمنى أن يطالب بيدرسون في تقريره بإجراءات جدّية تجاه تلك الأطراف. فليس من المعقول ألا تستقبل دمشق، بل الرئيس الأسد شخصياً، المبعوث الشخصي للأمين العام لهيئة الأمم المتحدة. لا أدري أي مهام بالنسبة للرئيس السوري يمكن أن تسبق لقاء كهذا في ظروف يموت فيها شعبه من الجوع والبرد والمرض.
رامي الشاعر – كاتب ومحلل سياسي