
كوردستريت|| #آراء وقضايا
بقلم سمير عادل
بقدر ما تعبّر قرارات دونالد ترامب بفرض التعرفة الجمركية على 180 دولة حول العالم، مدعومًا من الغالبية العظمى من الحزب الجمهوري داخل الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية، عن محاولة لوضع العصي في عجلة تطور علاقات الإنتاج الرأسمالية وقوانينها، وهي القوانين التي عبّر عنها مؤسس الاقتصاد البرجوازي آدم سميث بشعاره الشهير “دعه يعمل، دعه يمر”، والتي بلغت ذروتها في أدبيات العولمة الاقتصادية والسياسية وتنظيمها عبر منظمة التجارة العالمية، فإن هذه القرارات في الوقت ذاته تمثل مسعىً يائسًا وفاشلًا لوقف تراجع المكانة الاقتصادية والسياسية للولايات المتحدة الأمريكية على الساحة الدولية.
تُخبرنا الأدبيات الماركسية بأن رأس المال يتميز بظاهرتين اجتماعيتين أساسيتين: الجُبن، وانعدام الولاء. فهو جبان بطبيعته، لا يغامر بالدخول إلى أي بيئة تفتقر إلى الاستقرار الأمني والسياسي والاقتصادي. وليس له صاحب أو صديق، إذ يسعى دومًا إلى التمركز حيث تتوفر له أعلى معدلات الربح.
وتدرك أركان النظام الرأسمالي هذه الحقيقة المرة، من سياسيين واقتصاديين ومفكرين. لذلك، فإن كل ما يُقال عن أن دونالد ترامب “باع” حلفاءه الأوروبيين، أو أنه ساوى بين الحلفاء والخصوم، ليس سوى هراء يُراد به إخفاء الواقع المرعب الذي يقلب كل التوازنات والمعادلات السياسية والاقتصادية في العالم. فميزة رأس المال هي صنميته، فلا أخلاق له، بينما يحاول حلفاء الولايات المتحدة- أوروبا وكندا وأستراليا واليابان على سبيل المثال، إضفاء مسحة أخلاقية عليه، عبر تصويره كفاعل سياسي وفيّ، بينما هو في الحقيقة لا يرى إلا بوصلة مصالحه، ويقود ممثليه السياسيين في الحكومات والانظمة لأصحاب الشركات نحو حيث توجد الأرباح، لا الولاءات. وهذه المسحة الأخلاقية هي جزء من إخفاء قوانين النظام الرأسمالية والتستر على ماهيتها ووحشيتها المعادية بالدرجة لامن ورفاه معيشة الغالبية العظمى من البشرية وفي مقدمتها الطبقة العاملة.
وإذا كانت السياسة، “تعبيرًا مكثفًا عن الاقتصاد” كما يقول لينين قائد ثورة أكتوبر العمالية، فإن ما تسعى إليه إدارة ترامب في تقاربها مع روسيا، ومحاولة إنهاء حرب أوكرانيا حتى وإن كان ذلك على حساب أوروبا، هو تعبير واضح عن إدراكها بأن استعادة مكانة الولايات المتحدة وهيمنتها العالمية تتطلب حلفاء جددًا، وأسواقًا جديدة، وإعادة صياغة المعادلات السياسية الدولية بما يخدم المصالح الأمريكية في المرحلة المقبلة.
شعار “اجعل أمريكا عظيمة مجددًا” الذي يرفعه دونالد ترامب، لا يختلف جوهريًا عن شعار “تفوق العِرق الآري” الذي رفعه أدولف هتلر زعيم النازية في المانيا؛ ففي كلا الشعارين تكمن حقيقة واحدة: أن النظام الرأسمالي العالمي غير قادر على تحمّل المنافسة الاقتصادية الشرسة، وتدحض من جديد كل المقولات والمفاهيم التي روجت لها حول أخلاقيات النظام الرأسمالي من المنافسة الحرة، اصالة الفرد، حرية التجارة، وقداسة السوق وقوانينه. وفي كل مرحلة من مراحل عمر النظام الرأسمالي، تحدث انفجارات كبرى، إما على شكل أزمات اقتصادية عميقة، منها تجرّ العالم إلى حروب عسكرية، أو، في أحسن الأحوال، إلى حروب اقتصادية، كما نشهده اليوم على شاشات الولايات المتحدة التي يعرضها ترامب للعالم.
رهان سياسة ترامب:
ليس أمام الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة الأمريكية لإيقاف انحدار مكانتها سوى طريقين لا ثالث لهما: الأول، هو الاستمرار على نهج الجناح الذي مثّله الرئيس السابق جو بايدن وهو طريق التجارة الحرة والعولمة، والثاني، هو العودة إلى ما قبل أدبيات العولمة وقواعد منظمة التجارة الحرة، أي محاولة تعطيل مسار التطور الرأسمالي والعمل ضد قوانينه.
وقد جُرّب هذا النهج سابقًا من قِبل الرئيس الأمريكي الجمهوري هربرت هوفر، الذي انتُخب عام 1928، ليقع خلال ولايته الكساد الكبير، وهي الأزمة الاقتصادية التي هزّت أسس النظام الرأسمالي آنذاك عام 1929. وفي محاولة لمواجهتها، تم إقرار قانون الحمائية المعروف بـ “سموت-هاولي” (Smoot-Hawley Tariff Act)، والذي فرض تعريفات جمركية على واردات من 25 دولة، بلغت نسبتها نحو 40% و ٢٠ الف سلعة، بحجة حماية الزراعة والصناعة المحلية. لكن النتائج جاءت عكسية تمامًا؛ إذ تراجعت الصادرات الأمريكية بنسبة 66% بين عامي 1929 و1934، مما فاقم الأزمة بدلاً من حلّها. وكان هذا قبل سيادة مفاهيم العولمة والسياسة الليبرالية والسوق الحرة.
تُراهن سياسة دونالد ترامب الحمائية اليوم على قوة السوق الأمريكية الداخلية، إذ يشكل الاستهلاك نحو 70% من الناتج المحلي الإجمالي، ما يعكس مدى اعتماد الاقتصاد الأمريكي على إنفاق المستهلكين. ففي عام 2024، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة حوالي 29.2 تريليون دولار، أي أن حجم الاستهلاك وصل إلى نحو 20.44 تريليون دولار.
أما في الصين، فيمثل الاستهلاك نسبة أقل بكثير، إذ لا تتجاوز 39.6% من الناتج المحلي الإجمالي. وبالنظر إلى أن الناتج المحلي الإجمالي للصين في العام نفسه بلغ حوالي 18.9 تريليون دولار، فإن حجم الاستهلاك بلغ نحو 7.48 تريليون دولار فقط.
وانطلاقًا من هذه المعطيات، يدعو ترامب الشركات إلى نقل صناعاتها إلى داخل الولايات المتحدة، مع منحها امتيازات ضريبية، من بينها الإعفاء من الضرائب، كحافز لتشجيع التصنيع المحلي.
وإذا ما نجحت هذه السياسة، فإن الولايات المتحدة في منظور ترامب، قد تصبح قادرة على منافسة الصين اقتصاديًا، خاصة وأن الاقتصاد الصيني يعتمد في نموه بدرجة أساسية على الاستثمار والصادرات، بينما تراهن الولايات المتحدة على قوة سوقها الاستهلاكية واتساعها.
إلا أن ما يغفله الجناح الذي يمثله ترامب هو أن موقع الولايات المتحدة الأمريكية في تقسيم العمل للإنتاج الرأسمالي العالمي يتمركز في قطاع الخدمات، وليس في صناعة السلع. إذ يشكل قطاع الخدمات مثل؛ الخدمات المالية والمصرفية، التكنولوجيا، الصحة، التعليم، السياحة، وشركات التأمين — نحو 18-20% من الناتج الاقتصادي العالمي، بينما يمثل حوالي 77% من الناتج المحلي الإجمالي الأمريكي.
أما النقطة الثانية، فهي أن الولايات المتحدة لا يمكنها أن تكون دولة مُصدّرة للسلع كالصين، التي تتفوق في هذا المجال بسبب انخفاض تكلفة اليد العاملة. ولهذا السبب، لجأت الشركات الأمريكية إلى نقل مصانعها نحو دول مثل المكسيك، الصين، فيتنام، إندونيسيا، كمبوديا، وتايلاند، حيث تنخفض تكاليف الإنتاج، التي تشكل انخفاض أجور العمال المسالة المحورية، ما يتيح لها تصنيع البضائع هناك ومن ثم تصديرها إلى السوق الأمريكية الكبيرة للاستهلاك.
وهذا يفسر بدقة فرض الرسوم الجمركية المرتفعة على واردات السلع من هذه الدول، إذ بلغت النسب: 49% على كمبوديا، 46% على فيتنام، 36% على تايلاند، و32% على إندونيسيا وتايوان.
إن سياسة ترامب الحمائية تسعى إلى قلب هذه المعادلة. ومع ذلك، حتى في حال عودة بعض الشركات الأمريكية أو تأسيس شركات أجنبية جديدة داخل السوق الأمريكية، فإنها لن تتمكن من تحقيق مستويات التصدير التي تحققها الصين والدول الأخرى المشار إليها، وذلك بسبب ارتفاع تكاليف الإنتاج داخل الولايات المتحدة، وعلى رأسها أجور اليد العاملة، التي تُعد من الأعلى عالميًا مقارنة بتلك الدول.
سياسة التضليل كأداة استراتيجية:
من الضروري تسليط الضوء على استخدام التضليل كسياسة منهجية ضمن الاستراتيجية الترامبية في الحرب التجارية التي تشنها الولايات المتحدة على العالم. إذ يُوظَّف هذا التضليل في اتجاهين رئيسيين:
أولًا، تعبئة شرائح واسعة من المجتمع الأمريكي، وخاصة تلك الفئات المتضررة من التغيرات الاقتصادية، وكسب تأييدها ودعمها للسياسات الاقتصادية للإدارة الأمريكية، عبر تصوير البلاد كضحية لاستغلال خارجي ممنهج. ثانيًا، لإضفاء شرعية زائفة على خرق القواعد والقوانين التي تنظّم التجارة الدولية، وهي القواعد التي كانت الولايات المتحدة نفسها من أبرز من ساهم في صياغتها وترسيخها، خاصة في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.
بهذه الطريقة، تتحول سياسة التضليل إلى أداة استراتيجية تهدف إلى إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي بما يتناسب مع تراجع القوة الأمريكية، لا وفق مبادئ “الحرية الاقتصادية” التي لطالما تبنّتها، بل وفق منطق فرض الهيمنة وتجاوز الاتفاقات الدولية.
للوهلة الأولى، تبدو المبررات التي تروّج لها إدارة ترامب وفريقه لتسويغ الحرب التجارية وكأنها دفاع عن العدالة الاقتصادية، حيث تُصوَّر الولايات المتحدة كضحية لمعاملة غير منصفة من قبل دول العالم. لكن هذا الخطاب ينطوي على قدر كبير من التضليل، ويعكس صورة ضبابية ومصداقية زائفة في الداخل الأمريكي.
في الواقع، كانت الولايات المتحدة نفسها، وبالذات في عهد إدارة ريتشارد نيكسون عام 1971، هي من سنّت قانونًا أنهى ربط الدولار بالذهب فيما عُرف بـ”صدمة نيكسون”، نتيجة لعجز الميزانية الناتج عن حرب فيتنام، وتكاليف برامج الرعاية الاجتماعية، والتضخم الهائل في كمية الدولار المتداول عالميًا مقارنة باحتياطي الذهب. منذ ذلك الحين، أصبحت أمريكا الدولة الوحيدة التي تطبع عملتها دون أي غطاء من الذهب، وفرضت الدولار عملة عالمية بالقوة، مستخدمة إياه كأداة فعّالة في تعزيز هيمنتها السياسية والاقتصادية.
وقد لوّح دونالد ترامب مؤخرًا، في مستهل ولايته الثانية، بتهديد دول “بريكس” إذا ما سعت لإطلاق عملة مستقلة خاصة بها. في الحقيقة أن الولايات المتحدة لا تغطي سوى 14% من الدولارات المتداولة حول العالم، والتي تُقدَّر بالترليونات.
أما الادعاءات الأخرى، مثل أن ألمانيا واليابان تستفيدان من السوق الأمريكية دون مقابل، وقد صدرت ملايين السيارات لنا، واذا ارادت الربح من اسواقتنا، فعليها فتح شركاتها في الولايات المتحدة الأمريكية. إن هذه الادعاءات ليست سوى جزء من حملة تضليل ممنهجة. فهناك، على سبيل المثال، مصنع كبير لإنتاج سيارات “تويوتا كامري” في ولاية كنتاكي، ومصنع “بي إم دبليو” في مدينة سبارتنبرغ بولاية ساوث كارولاينا، والذي يُعد من أكبر مصانع الشركة في العالم ويُصدر أكثر من 70% من إنتاجه للخارج. كما يوجد مصنع “فولكس فاجن” في مدينة تشاتانوغا بولاية تينيسي.
وبالمثل، فإن تبرير ترامب لفرض الرسوم الجمركية على كندا بذريعة تسلل المخدرات من الحدود الكندية، لا يصمد أمام الحقائق، حيث تُظهر البيانات أن أقل من 1% من تجارة المخدرات تمر عبر تلك الحدود. أما الادعاء بأن المكسيك تسهل عبور المهاجرين وعصابات المخدرات، فقد تم تفنيده عمليًا من خلال إعادة التفاوض على اتفاقية “نافتا” وتوقيع النسخة الجديدة منها في ولايته الأولى.
الأمر لا يتوقف عند هذا الحد، إذ تفرض الولايات المتحدة تعرفة جمركية بنسبة 10% على دول مثل أستراليا وبريطانيا، بالرغم من أن الميزان التجاري معهما يميل لصالح أمريكا. وهذا يُظهر أن الخطاب الاقتصادي لترامب لا يستند إلى أرقام دقيقة، بل يُوظّف لأغراض سياسية داخلية.
وفي مشهد آخر من فصول هذه الحرب التجارية، أشار ترامب إلى اتصال الرئيس الفيتنامي به للتفاوض بشأن الرسوم، مدّعيًا أن “سكرتير الحزب الشيوعي” هو من تحدث إليه ولا نعرف لماذا ذكر صفته الحزبية سوى التباهي. غير أن الحقيقة هي أن الشركات الأمريكية العاملة في فيتنام هي من دفعت السلطات الفيتنامية للضغط بهذا الاتجاه، في محاولة لحماية مصالحها.
أخيرًا، في ملف “تيك توك”، أعلن ترامب أن عملية البيع ارجأت 75 يومًا لحين إتمام أوراق الصفقة، في خطوة وصفها وكأنها تتطلب إجراءات بيروقراطية طويلة تشبه بعض الدول العربية. لكن الواقع أن الصين رفضت التوقيع على الاتفاقية، بعد فرض الرسوم الجمركية عليها من قبل إدارة ترامب.
سياسات النظام الرأسمالي “كسر العظم”:
الفارق بين النظام النازي في ألمانيا، الذي كان نتاجًا مباشراً للأزمة الاقتصادية العنيفة عام 1929 والتي هزّت أوروبا ومهدت الطريق نحو الحرب العالمية الثانية التي أودت بحياة أكثر من 80 مليون إنسان، وبين إدارة ترامب التي تقود الولايات المتحدة اليوم، التي تواجه تراجعًا اقتصاديًا وهيكلية مديونية هائلة تجاوزت 34.6 تريليون دولار، إضافة إلى تفوق الصين عليها في قطاعات استراتيجية مثل الدفاع، الفضاء، الروبوتات، الطاقة، البيئة، التكنولوجيا الحيوية، الذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا الحوسبة – بحسب تقرير المعهد الأسترالي للسياسة الاستراتيجية (ASPI)، نقول يكمن بعدم إمكانية تَحوّل هذه الحرب الاقتصادية إلى حرب عالمية ثالثة، لأن القوى الدولية المتنافسة – الولايات المتحدة، الصين، الاتحاد الأوروبي بقيادة فرنسا وبريطانيا –تمتلك السلاح النووي، وهو ما يجعل المواجهة المباشرة خيارًا كارثيًا لا يجرؤ أحد على اتخاذه… حتى الآن. وبعكس ما يسوق نفسه دونالد ترامب بأنه رجل سلام ويطفئ نيران الحروب في العالم، فهو هدد عسكريا باحتلال بنما وغرينلاند، وشن حربا شرسة يستخدم فيها كل الإمكانات العسكرية على الحوثيين، ويجيش اليوم قواته في الخليج والبحر المتوسط والأحمر والمحيط الهندي بتهديد ايران، وما يحدث من جرائم وحشية يومية في غزة لم يكن ليحدث لو لا الدعم غير المشروط لإسرائيل النازية، فأنه لن يتورع أي ترامب مثل اسلافه بشن حربا مثل هتلر على العالم لو لا التوازنات الدولية التي حددها السلاح النووي.
ان البرجوازية، التي بَنَت أسطورة “اليد الخفية” و”السوق الحرة”، تُسارع إلى التخلي عن كل هذه المبادئ عندما تُهدّد مصالحها، وتعود إلى الحمائية، وفرض الرسوم الجمركية، وتقويض سلاسل التوريد، والتضحية بالحلفاء، تمامًا كما نشهد اليوم في السياسات الاقتصادية التي يروّج لها الجناح الترامبي داخل الطبقة الحاكمة الأمريكية. إنها سياسات تعكس حالة الذعر من التراجع العالمي للولايات المتحدة الامريكية، لا سيما أمام صعود الصين وقوى اقتصادية أخرى.
السياسات الترامبية، التي تدعو إلى “إعادة التصنيع داخل أمريكا” و”أمريكا أولاً”، ليست سوى محاولة يائسة لإبطاء تآكل الهيمنة الاقتصادية الأمريكية، عبر استهداف العمال والفقراء حول العالم، بمن فيهم عمال أمريكا أنفسهم. إذ تؤدي هذه السياسات إلى إغلاق المصانع في المكسيك وآسيا، وتدمير فرص العمل في كندا وأوروبا، وارتفاع الأسعار التي تضع تكاليف معيشية إضافية على كاهل الأسر والعائلات في الولايات المتحدة، بما يعادل 400 دولار شهريًا، الذين يُستخدمون اليوم كحطب في معركة إعادة تموضع الإمبراطورية الأمريكية.
نهاية التاريخ وخيارات النظام الرأسمالي:
أما الخيارات التي يضعها النظام الرأسمالي امام البشرية، هو نشر الكراهية القومية، والكراهية ضد المهاجرين واللاجئين التي نراها اليوم في أنحاء العالم، وتقوية التيارات اليمينية الرجعية التي بدأت تتبنى شعار “أمريكا أولًا”، وترفع شعارات مماثلة مثل “فرنسا أولًا”، “ألمانيا أولًا”، وحتى ما يبعث على السخرية في العراق حيث رفع البعض شعار “العراق أولًا”.
وبين الخيارين، أي الفقر والعوز، و تسميم أجواء المجتمع الإنساني بالافكار والتصورات الرجعية بالكراهية القومية والمعاداة لكل القيم الإنسانية، يكون خيار التهديدات العسكرية، بشن الحروب، وهي ظاهرة ملازمة للنظام الرأسمالي لحسم التنافس بين أقطابه.
واليوم، في ظل الأزمات المتلاحقة، من ارتفاع المديونية العالمية، وتفكك سلاسل الإنتاج، وتصاعد النزاعات التجارية، وحرب أوكرانيا، والوحشية المنفلتة في غزة، إلى صعود التيارات اليمينية والانغلاق القومي – يبدو إن التاريخ، الذي أراد بعض المدافعين عن مصالح الطبقة البرجوازية أن يتوقف عند عتبة الليبرالية الرأسمالية، قد عاد ليسير في اتجاه آخر. فما نشهده اليوم ليس نهاية التاريخ كما توهّموا، بل نهاية تاريخ النظام الرأسمالي نفسه، إذ تتبلور في أعماق المجتمعات تناقضات جديدة تفتح الأفق أمام تحوّلات كبرى.
وإذا كان هذا هو “نهاية التاريخ” التي بشّرنا بها فرانسيس فوكوياما، صاحب كتاب نهاية التاريخ والإنسان الأخير، حين تحدّث عن انتصار النظام الرأسمالي الليبرالي كذروة تطور البشرية، فإنه تجاهل الحقيقة الجوهرية التي لا تزال تتكرّر مع كل أزمة: أن النظام الرأسمالي، حين يدخل طور أزماته البنيوية، لا ينهار في صمت، بل يجرّ المجتمعات برمّتها نحو دوامة من الانهيارات الاجتماعية والسياسية، ويدفع الطبقة العاملة ثمنًا باهظًا من استقرارها وكرامتها وحتى حياتها.
فكما قال كارل ماركس* الذي اكتشف تناقضات النظام الرأسمالي، فإن النظام الرأسمالي يحمل في داخله بذور فنائه، عبر التناقضات الطبقية التي لا يمكن حلّها إلا بتغيير جذري في علاقات الإنتاج. وما نشهده اليوم من نهوض النضالات العمالية، وحركات الوعي الطبقي في مختلف أنحاء العالم، هو بداية استعادة التاريخ لمساره الحقيقي… لا نهايته.
* اختارته الـ(بي بي سي اونلاين) مفكر الألفية، وتم اختيار كتابه “رأس المال” كواحد من أعظم الكتب في استطلاعات وآراء كثيرة، خاصة في الأوساط الأكاديمية والفكرية البرجوازية في العديد من القوائم التي تنشرها مؤسسات ثقافية وفكرية مثل” لوموند” و”غارديان” ، غالبًا ما يتم إدراج “رأس المال” بين أهم الكتب التي غيّرت مجرى التاريخ.