سوريا الجديدة، بين التعريب والتغيير

آراء وقضايا 05 يناير 2025 0
سوريا الجديدة، بين التعريب والتغيير
+ = -
شارك على الفيسبوك

كوردستريت|| #آراء وقضايا 

بقلم  ماهر حسن

يدعو البعض، بشغف متقد، إلى إزالة كل ما يمت بصلة إلى النظام السابق، باعتبار أن تلك البقايا ليست سوى رموز لحقبة قمعية انتهكت الحقوق وأساءت إلى المجتمع. ومع ذلك، يظل إرث النظام الاستعرابي في المناطق الكردية قائماً دون أن تمتد إليه يد المساءلة أو التغيير. هذه الازدواجية الصارخة لا تعبر فقط عن قصر نظر البعض أو انشغالهم بملفات أخرى، بل تكشف عن تناقضات أعمق وأكثر إشكالية في طريقة التعامل مع القضية الكردية، التي يتم التعامل معها وكأنها ملف ثانوي أو هامشي يُدار ببرود وانتقائية مثيرة للدهشة. هذا التناقض، في جوهره، يعكس غياب رؤية عادلة وشاملة، حيث يتم تجاهل أبعاد الظلم التاريخي الواقع على الأكراد مقابل التركيز على قضايا أخرى ربما تبدو أكثر إلحاحاً لدى البعض، دون إدراك أن العدالة لا يمكن أن تكون انتقائية 

في الوقت الذي تُمحى فيه أسماء الشوارع والمدارس المرتبطة برموز النظام السابق في مناطق أخرى، نجد أن أسماء القرى الكُردية المعربة تُعامل وكأنها “خط أحمر”.لماذا تُعتبر إزالة اسم شارع أمرًا سهلاً ومبررًا، بينما يُترك اسم قرى ومدن كُردية مثل “كوباني” عين العرب ليبقى رمزاً لسياسة التعريب؟ أليس هذا استمراراً لسياسات النظام السابق بوجه جديد؟

هذه الانتقائية ليست مجرد مصادفة، بل هي انعكاس لذهنية لا تزال ترى في التعريب أمراً طبيعياً. فمن الصعب تفسير إصرار البعض على الاحتفاظ بأسماء مثل “تل عربيد” و”رأس العين”، رغم معرفتهم التامة بأن هذه الأسماء هي جزء من مشروع سياسي هدفه طمس الهوية الكردية.

من أبرز الأمثلة الصارخة التي تعكس هذا التناقض العميق هو مشروع “الحزام العربي” في كوردستان سوريا، الذي نفذه النظام البائد كجزء من سياساته الاستعمارية الرامية إلى تغيير التركيبة الديموغرافية للمنطقة. لم يكن الهدف من هذا المشروع خفياً أو مبهماً؛ فقد صُمم خصيصاً لطمس الهوية الكردية وتعريب المنطقة بالكامل، في محاولة ممنهجة لاقتلاع جذور الشعب الكردي من أرضه وإلحاقها بقوالب لا تنتمي إليها.

ورغم أن البعض يدّعي الوقوف ضد هذه السياسات القمعية، إلا أن أفعالهم تقول عكس ذلك تماماً. لم تُبذل أي جهود حقيقية لإزالة آثار هذا المشروع الاستيطاني، ولم نشهد مبادرات جدية لإعادة الأسماء الكردية الأصلية إلى القرى والمناطق التي عُرّبت قسراً. هذه المناطق، التي تحمل في ذرات ترابها وذاكرة سكانها تاريخاً كردياً عريقاً، لا تزال ترزح تحت وطأة التعريب القسري الذي فرضه النظام السابق.

وعلى النقيض من ذلك، عندما يطالب الكرد بإعادة حقوقهم المسلوبة، سواء بإزالة آثار هذه السياسات أو استعادة أسماء مناطقهم الأصلية، تواجه هذه المطالب باتهامات متناقضة تصل إلى حد وصفها بـ”التطهير العرقي” بحق العرب الذين نُقلوا إلى المنطقة ضمن هذا المشروع. لكن المفارقة الكبرى تكمن هنا: لماذا لا يُطالب هؤلاء بالعودة إلى المناطق التي جاؤوا منها في إطار مشروع استيطاني واضح المعالم؟ لماذا تُعتبر استعادة الكرد لما سُلب منهم اعتداءً، بينما يُغض الطرف عن جرائم التغيير الديموغرافي التي فُرضت عليهم؟

هذا التناقض لا يمكن قراءته بمعزل عن العقلية الانتقائية التي يتبناها البعض في التعامل مع القضية الكردية. إنه انعكاس لفجوة عميقة في مفهوم العدالة، حيث تُطبق القيم والمبادئ بانتقائية مذهلة، فتُصادر حقوق شعب كامل وتُطوى صفحاته، وكأنها ثانوية في سجل النضال العام. أما الكرد، فهم دائماً على الهامش، مطالبون بالصمت في وجه الظلم، وكأنهم غرباء في أرضهم.

حتى الإعلام الحالي، الذي يُفترض أنه يتمتع بحرية الانفتاح، يبدو وكأنه يحمل في طياته بقايا العقلية البعثية نفسها التي سعت إلى طمس الهوية الكردية وتهميش قضاياها. فتسمع أسماء قرى ومدن كردية تُنطق بأسماء تعريبية فرضها النظام البعثي، وكأن هذه التسميات أصبحت “حقائق أبدية” لا يمكن المساس بها أو تغييرها. يُراد لهذه الأسماء المفروضة أن تبقى، وكأنها جزء من هوية المنطقة، متجاهلين تماماً التاريخ الحقيقي لها وما تمثله من رمزية ثقافية للشعب الكردي.

الحزام العربي في الحسكة، الذي يُعد من أكبر المشاريع الاستيطانية التي استهدفت تغيير ديموغرافية المنطقة بشكل قسري، تُهمش بشكل متعمد، بل والأسوأ، أن أسماء التعريبية تُستخدم بشكل اعتيادي، دون أي اعتبار لكونها أسماء فُرضت قسراً في إطار مشروع التعريب، ودون أن يُثار النقاش حول إعادة الأسماء الأصلية لهذه المناطق.

هذا التجاهل المتعمد ليس مجرد صدفة أو قلة وعي، بل هو رسالة واضحة تُفصح عن رؤية ضيقة ومغلوطة للكرد ومكانتهم. من خلال الإصرار على استخدام أسماء وتعابير تعريبية، ومن خلال تهميش القضية الكردية في الإعلام السائد، يُعاد إنتاج تلك العقلية التي تعتبر الكرد شعباً قابلاً للتطويع أو التجاهل. لا يتم التعامل مع الكرد كشركاء متساوين في الوطن، بل كجزء هامشي يمكن التلاعب به أو تطويعه ضمن إطار يخدم أغراض المركزية التي ما زالت تطغى على المشهد السياسي والإعلامي.

إن الإبقاء على هذه التسميات وتعمد تغييب المشاريع الاستيطانية مثل الحزام العربي هو بمثابة إعادة تأكيد على أن التغيير الذي يتحدث عنه البعض لا يتجاوز السطح، بينما يبقى الجوهر محافظاً على إرث الإقصاء والتهميش، وتعمد تغييب لا يعبر فقط عن استمرارية إرث الإقصاء، بل يطرح تساؤلات عميقة حول جدية التغيير المنشود في سوريا الجديدة. هذا الواقع يضع الإعلام أيضاً أمام اختبار حقيقي: هل يستطيع التحرر من عقلية الماضي والاعتراف بالكرد كشعب له هويته وحقوقه، أم سيستمر في تقديم نفسه كامتداد غير مباشر لسياسات القمع التي سادت في عهود سابقة؟

الإعلام، الذي يلعب دوراً محورياً في تشكيل الوعي العام، يجب أن يتحرر من بقايا العقلية البعثية، وأن يتبنى خطاباً عادلاً ومنصفاً يعكس التنوع الحقيقي لسوريا. يمكن للإعلام أن يكون جسراً للحوار بين المكونات المختلفة، من خلال تسليط الضوء على القضية الكردية بموضوعية، وتوعية الجمهور بتاريخها ومعاناتها، بدلاً من تهميشها أو تصويرها ضمن قوالب نمطية.

وأخيراً، على القوى السياسية والاجتماعية أن تدرك أن بناء سوريا الجديدة لن يتحقق إلا بإشراك جميع مكوناتها كشركاء متساوين في الحقوق والواجبات. تجاهل القضية الكردية ليس مجرد تهميش لفئة معينة، بل هو إعاقة لمسار التحول الديمقراطي بأسره. إن العدالة ليست انتقائية، وأي تغيير حقيقي يجب أن يبدأ بالاعتراف، التصحيح، ثم المصالحة.

شارك هذا الموضوع على التواصل الاجتماعي
آخر التحديثات