في تاريخ 25ـ 10ـ 2013، وضمن الجولات المكوكية التي يقوم بها السفير الأمريكي فورد بين أطراف المعارضة السورية من أجل جمعها عل قرار الذهاب إلى جنيف 2، نشر الناشطان في الحراك الثوري الدكتور نصر الحريري والسيد جمال الوادي، محضراً مفصّلاً عن الحوار الذي دار بينهما من طرف، وبين السفير فورد ومساعديه في إستنبول من طرف آخر بدعوة من السفارة الأمريكية، وأنا أجتزئ من المحضر هذا الحوار:
«السيد الوادي: أمريكا تضغط بكل قوة لتلزم المعارضة بالذهاب إلى جنيف، ونحن في الحراك الثوري نرفض رفضاً قاطعاً الذهاب إلى نوع من أنواع التفاوض، في جنيف أو غيرها، ما لم يكن تنحّي الأسد وكل أركانه يسبق تلك المفاوضات، مع تحويلهم للمحاكمة العادلة.
لكن دعني أسألك: هل تضمن لنا أن يغادر الأسد قبل أو بعد المفاوضات؟
السفير فورد: نحن لا نضمن شيئاً وليس عندنا أي نتيجة مضمونة من التفاوض.
الوادي: إذاً هل المطلوب منا أن نذهب إلى المفاوضات كما أوسلو، نذهب ونقدم تنازلات وتفشل، ثم بعد فترة جديدة نذهب مرة أخرى ونقدم تنازلات وتفشل المفاوضات، يستمر التنازل ونستمر على ذلك حتى نصبح نتفاوض لنعطي تنازلات فقط، ويستمر الأسد لسنوات تحت شعار نحن نفاوض، والقصد من ذلك كلّه زرع الملل في نفوس الثوار ونزع الحاضنة الشعبية منهم».
حين قرأت هذا المحضر اللافت تبادرت إلى ذهني أسئلة عدّة حول حجم الدعم الذي قدّمته الولايات المتحدة ومجموعة أصدقاء الشعب السوري للثوار السوريين وقضيتهم التحرّرية في مواجهة ما يناله النظام السوري من حشد وتمكين منقطعيْ النظير، بالأفراد والعتاد والأسلحة والأدوات الدبلوماسية والسياسية، ومن دول هي صاعدة في سلّم القوى الكبرى. وهل يعقل أن تذهب المعارضة إلى المفاوضات بعد أن خذلها الأصدقاء في تأمين ما وعدوا به من سلاح نوعي يساعد الجناح المسلّح منها على تحقيق توازن عسكري على الأرض يهيئ المعارضة السياسية الأرضية الصلبة للدخول في المفاوضات من موقع الندّ؟ وهل الانقسام الدولي الحاصل بين مجموعة أصدقاء الشعب السوري التي قرّرت في اجتماعها المنعقد في لندن أن لا وجود لبشار الأسد في مستقبل سوريا، وبين الموقفين الأمريكي والروسي اللذين يحتكران مشهد جنيف ولا يقبلان بشرط مسبق في ترحيل الأسد قبل أو خلال جولة المفاوضات؟
أربعة ملايين نازح
عشرات الأسئلة تجول في الرأس حين يطالعنا كل صباح مشهد الدم المنفلت في سوريا من شريانها المفتوح، المشهد الذي يتعثّر به يومنا ويتشنج من هوله جهازنا العصبي وتنقبض لقسوته الأرواح والأسارير. فالكارثة الإنسانية السورية المترتبة على مرور ما يقارب العامين من العنف الممنهج والهمجي الموجّه من النظام السوري نحو هذا الشعب الذي لاحول له ولا قوة، هذه الكارثة هي من كبائر المصائب البشرية التي عرفها المجتمع الإنساني في التاريخ المعاصر. ففي بلد يبلغ تعداده السكاني نحو 22 مليون نسمة أمسى سبعة ملايين من مواطنيه بحاجة إلى مساعدة إنسانية عاجلة، و4.25 مليون نازحين داخل سوريا و 1.6 من لاجئين في دول الجوار والعالم، هذا إلى جانب ما يزيد عن مائة ألف شهيد ومائتي ألف معتقل ومفقود، و400 ألف معوّق جسدياً نتيجة إصابات خلال الأعمال القتالية. تشير هذه الأرقام والإحصاءات الصادمة إلى أن حجم الكارثة في سوريا يتفوّق على أعتى الكوارث الإنسانية في العالم بما فيها كارثة حرب دارفور.
المجتمع الأمريكي
وفي نظرة إلى مدى استجابة المجتمع الأمريكي (على المستوى الشعبي غير الحكومي) للحاجة الإنسانية الملحّة والعاجلة في سوريا مقارنة باستجابته السريعة، بالمساعدة المادية والمعنوية لكوارث أخرى في العالم، نجد في التقرير الذي نشرته منظمة أوكسفام OXFAM مؤخراً، وهي منظمة جامعة لـ17 مؤسسة في العالم تعمل من أجل القضاء على الفقر وتقديم المساعدات في المناطق المنكوبة، نجد صورة واضحة لضعف الرأي العام الأمريكي في تجاوبه مع حاجة الشعب السوري المنكوب، هذا الضعف في التأييد الشعبي الأمريكي كان سبباً رئيساً في إلغاء الرئيس الأمريكي لضربته العسكرية التي كان يعتزم توجيهها إلى النظام السوري.
يفيد التقرير أن أوكسفام أمريكا تمكّنت من جمع مبلغ متواضع من التبرعات الشعبية الأمريكية بغرض توجيهها كمساعدات إنسانية إلى سوريا لم يتجاوز 140 ألف دولار، بينما نجحت بجمع مبلغ 29 مليون دولار لضحايا زلزال هايتي في العام 2010، وأربعة ملايين دولار في السنة من أجل مساعدة دارفور، ومبلغ ثلاثة ملايين دولار لمتضرّري فيضانات باكستان في العام 2010. ويرى التقرير أن ضعف أداء المواطن الأمريكي فيما يخصّ المساعدات لسوريا مرده إلى ضعف الإعلام العالمي والأمريكي في نقل الصورة الحقيقية لمعاناة الشعب السوري في وجه آلة النظام المدجّجة بالمال والسلاح والدعم الروسي الإيراني المزدوج. يشكّل هذا الأمر دلالة موضوعية لأسباب التقاعس الأمريكي الرسمي عن التدخّل المجدي لمصلحة الثورة السورية ودعمها! فهو ـ أي الموقف الرسمي الأمريكي ـ لم يخضع حتى الآن لضغط شعبي يفرض على الكونجرس، وبالتالي على البيت الأبيض، تعزيز موقفه من الثوار ودعمهم مباشرة بالسلاح أو بإقامة مناطق حظر جوي في الأراضي المحرّرة من الشمال السوري. هذا ناهيك عن الفشل الذريع للمعارضة السورية في التواصل مع أصحاب القرار في الولايات المتحدة بخاصة، والمجتمع الدولي بعامة، وعدم قدرتهم على تشكيل لوبي سوري ضاغط يتابع المستجدات مع صانعي القرار الدولي ويحثّهم على تفعيل أدائهم باتجاه نصرة الشعب السوري الكليم.
المخرج من الأزمة
تقف الولايات المتحدة (على المستوى الرسمي الحكومي) متلكئة وعاجزة أمام تعقيدات المشهد السوري ودمويته، وهي في معرض بحثها عن مخرج للأزمة السورية لم تجد سوى تقديم الدعم الإنساني الإغاثي، التي كانت في المقدمة منه عالمياً، حيث وصل حجم الدعم الأمريكي إلى 234 مليون دولار شمل الأغذية والاتصالات والمواد الطبية والمعدات العسكرية غير القتالية. أما سياسياً، فقد وجدت أمريكا نفسها ملزمة بدعم الائتلاف السوري المعارض من أجل خلق بديل سياسي للمرحلة الانتقالية في حال سقوط النظام أو تنازله عنها كنتيجة ممكنة لمفاوضات جنيف2 ـ والأمران مستبعدان بشدّة في غياب أي احتمال لقيام أمريكا وحلفائها بضربة عسكرية قاسمة تودي به إلى مقبرة التاريخ. فما هي فرص نجاح مؤتمر جنيف2 في ظلّ تعنت النظام وعودته بقوة إلى الحالة العسكرية الهجومية على الأرض بعد أن كان في موقع الدفاع عن نفسه في وجه ضربات الجيش الحرّ الموجعة؟ ولماذا يريد المجتمع الدولي أن تدخل المعارضة ضعيفة إلى المؤتمر بسبب تجفيف موارد السلاح عن جناحها المقاتل؟ وهل فعلاً ستحضر إيران جلسات المؤتمر بناءً على رغبة روسية، أم أن قطب الخارجية الأمريكية، الوزير جون كيري، سيحول دون حضورها بقوة كون المشروع هو «مشروعه بامتياز» ـ كما أخبرني مسؤول مقرّب من كيري ـ وبالتالي سيكون هو من سينفرد برسم خارطة طريق المؤتمر دون الاستجابة لضغوط الدول الكبرى المشاركة.
سوريا إعادة البناء
قال لي أحد المسؤولين الأمريكيين المعنيين مباشرة بالملف السوري إن سوريا بحاجة إلى تريليون دولار من أجل إعادة بنائها، هذا ناهيك عن حجم المعونات اللازمة في مجال الإغاثة الطبية والاجتماعية والنفسيّة أيضاً. فمستوى العنف الذي مورس ويمارس في سوريا سيؤدي حسب تقرير منظمة اليونيسيف إلى ضياع جيل سوري بأكمله. وأردف هذا المسؤول ليتحدّث بإسهاب عن الفرصة الأخيرة للشعب السوري التي يهيؤها مؤتمر جنيف 2 في محاولة أممية لوقف العنف المنفجر في سوريا وتجنيب سوريا وإقليم الشرق الأوسط تداعيات مواجهات مذهبية وطائفية قد تطول لعقود وتحصد في طريقها الأخضر قبل اليابس.
التراجع الأمريكي
إثر تراجع الولايات المتحدة عن توجيه الضربة العسكرية (الموعودة) إلى النظام السوري بعد استعماله السلاح الكيميائي ضد المدنيين في غوطة دمشق واكتفائها بنزع هذا السلاح من يد القاتل دون معاقبة الفاعل على جريمته، أصبح جلياً أن التخاذل الأمريكي والعنجهية الروسية يلتقيان على مائدة الحل السياسي الذي رُسم له خارطة طريق جاهزة في كواليس جنيف؛ خارطة مجهولة الملامح، لا هي تنتصر للمعارضة السياسية في مطالبها التي تستند إلى تنفيذ بنود جنيف 1 الستة دونما اجتزاء أو نقص، ولا هي تحقن النزيف السوري كون القوى الثورية المقاتلة على الأرض أبدت موقفاً واضحاً من فخّ يدبّر لها في ليل جنيف قد يودي بها إلى مصير يشابه ما أودت به محادثات أوسلو من مصير عاجز لثورة الشعب الفلسطيني، وهو أمر رفضته معظم فصائلها التي تنضوي تحت مظلة الجيش الحرّ.
حقن الدماء
عندما سأل السفير فورد السيد الوادي عن طبيعة ما تريده المعارضة من الولايات المتحدة قال الوادي: «نحن نريد فتح ممرات آمنة، وفتح الحدود وخاصة في المنطقة الجنوبية، ونريد وقف الضغط على الدول التي تريد دعم الثورة السورية. نحن نريد للأسد أن يسقط وكل ما يقرّب ذلك هو ما نريده». فأجاب فورد: «أنتم بحاجة كبيرة لتحقنوا دماءكم، ولا تتوقعوا منا التدخل العسكري لنحقن دماءكم». وأردف: «كما عليكم أن لا تتوقعوا منا أن نقدم لكم شيئا غير المساعدات، كالوجبات والمعدات الطبية، ولا أرى خياراً أمامكم إلا الذهاب إلى جنيف».
* كاتبة وأكاديمية أمريكية
من أصل سوري