عبد الباري عطوان
قبل ثلاث سنوات تقريبا، وفي بداية الازمة السورية عندما كانت مسألة سقوط النظام في دمشق مسألة “وقت وتوقيت” بالنسبة للحلف الضخم المضاد للنظام وقادته، اسقطت المضادات الارضية السورية طائرة استطلاع تركية من طراز “اف 5″ اخترقت الاجواء السورية، السيد رجب اردوغان رئيس وزراء تركيا التزم الصمت وضبط النفس ولم يرد، لانه كان واثقا انه لا حاجة للرد لقناعة بان ايام النظام معدودة مثلما قال مرارا وتكرارا.
بعد ثلاث سنوات اعلنت السلطات السورية ان دفاعات ارضية تركية اسقطت طائرة سورية مقاتلة فوق منطقة حدودية بين البلدين في محافظة اللاذقية، وقالت ان هذا “اعتداء سافر” و”غير مسبوق”، ويؤكد دعم السيد اردوغان للجماعات “الارهابية”.
القاسم المشترك بين الواقعتين، ان الاسد عندما كان مأزوما ومحاصرا بالازمات الداخلية، والاحتجاجات التي كانت تطالب بالتغيير الديمقراطي “تحرش” بجاره التركي واسقط طائرته للايحاء بانه يتعرض لعدوان خارجي، واحياء الخلافات والسيد اردوغان الذي يواجه ازمات داخلية عديدة، ومجموعة اعدائه تتناسخ يلجأ للاسلوب نفسه الذي لجأ اليه خصمه السوري، فهو يعيش صراعا مع حليفه السابق فتح الله غولن دخل مناطق حمراء محظورة سياسيا واخلاقيا، وازمة الفساد المالي التي اطاحت بثلاث وزراء من الحزب الحاكم قما زالت تخيم بظلالها على الانتخابات البلدية التي ستجرى الاحد المقبل، وستكون اختبارا حقيقيا لشعبية اردوغان وحزبه، وتنتشر شائعات كثيرة غير مؤكدة هذه الايام عن تسجيلات جنسية لبعض المسؤولين الكبار في حزب العدالة والتنمية كانت خلف محاولة حظر “التويتر”، التي جرى حلها بعد رضوخ شركة التويتر لاوامر القضاء التركي وحذفت اشرطة مخلة.
هذا التصعيد التركي المفاجيء في الازمة السورية ربما يكون محاولة لتصدير هذه الازمة الداخلية الى عدو خارجي، وليس هناك افضل من النظام السوري “المكروه” من نصف الشعب التركي على الاقل.
***
منذ يوم الجمعة ومقاتلوا المعارضة السورية يحاولون السيطرة على “معبر كسب” الحدودي مع تركيا في ريف اللاذقية المشالي معقل الطائفة العلوية المحاذي لتركيا، على امل الاستيلاء عليه، وتحويله الى منفذ بحري لتسهيل مرور الاسلحة والامدادات العسكرية الاخرى لتعويض خسارة معظم منطقة القلمون ويبرود الاستراتيجية، وهي الخسارة الى ادت الى حرمانها، اي المعارضة، من شريان حياة رئيسي الى لبنان وسواحله.
السلطات السورية تقول ان من هاجموا معبر كسب البحري جاءوا من تركيا على حين غفلة وبحماية من الطائرات والقصف المدفعي التركي المكثف الذي وفر الغطاء لهم، وان الطائرة السورية التي جرى اسقاطها كانت تطارد المسلحين وتقصف مواقعهم في ريف اللاذقية.
الجماعات المسلحة تحقق تقدما في ريف اللاذقية، ولكن النظام يدفع بتعزيزاته لصد هجومها، وما زال من غير المعروف ما اذا كانت هذه التعزيزات تشمل مقاتلين من حزب الله وكتائب العباسي الموالية للنظام ام لا، لان مشاركة هذه القوى كان لها دورا حاسما في معركتي القصير والقلمون ويبرود واستعادة النظام لها لخبرتها في حرب العصابات.
النظام في سورية لن يتوقع مطلقا فتح جبهة معبر كسب، لانه اعتقد ان تركيا ستحترم الاتفاق غير المعلن بعدم تحويل اراضيها الى نقطة انطلاق للمعارضة المسلحة، وفتح معركة الساحل، ولكن الحرب خدعة، والسيد اردوغان جزء من تحالف يضم قطر وجبهات اسلامية متشددة تعرض لانتكاسة كبيرة في يبرود والقلمون وقرر الثار بسرعة وفي المنطقة الرخوة والقاتلة في حزام النظام السوري اي ريف اللاذقية، وفوق كل هذا وذاك لابد من التذكير بان تركيا عضو في حلف الناتو قبل نصف اعضائه الحاليين.
نقل المعارك الى معتقل النظام في اللاذقية وريفها يشكل تحديا خطيرا سيربك حسابات كثيرة، وقد يخلط الاوراق جميعا على جبهات القتال في سورية ويغير معادلات راسخة على الارض، خاصة ان هذا التحرك “الشمالي” يتزامن مع تسخين مدروس بعناية للجبهة الجنوبية، ومنطقة درعا يتمثل في استيلاء قوات الجيش السوري الحر على مواقع للجنوب وسجن المدينة المركزي.
السيد اردوغان يقدم على مغامرة خطيرة جدا ربما تكون غير مأمونة العواقب، فمن الواضح ان ازماته الداخلية ارغمته على الارتماء في حضن المؤسسة العسكرية التي قصقص اجنحتها عندما كان في ذروة قوته وعنفوانه السياسي الامر الذي سيجعله اسيرا لها، ومضطرا لتقديم تنازلات لها حاضرا او مستقبلا، والاهم من ذلك انه يدرك جيدا ان النظام في دمشق يملك اوراقا قوية في تركيا ابرزها كل من الورقتين العلوية، والكردية، ناهيك عن المعارضة العلمانية الممثلة في حزب الشعب الجمهوري الخصم اللدود للحزب الحاكم ورئيسه.
***
عندما كان الاسد ضعيفا شبه منزوع الانياب والمخالب وتتعرض قاعدة حكمه لضربات عديدة داخلية وخارجية وانشقاقات عسكرية ودبلوماسية وسياسية بادر الى اسقاط الطائرة العسكرية التركية، ولكن اردوغان ابتلع كرامته ورفض الانجرار الفوري الى المواجهة لايمانه الراسخ ان النظام ساقط لا محالة، وكم كان مخطئا في حساباته.
النظام السوري ما زال منهكا رغم انتصاراته الاخيرة، ولكن اقوى بكثير بالمقارنة بوضعه قبل عامين او ثلاثة، ولكن من غير المستبعد ان ينجر الى حرب مع الجار التركي القوي بشكل مباشر وسيلجأ الى اسلوب ضبط النفس مثلما فعل اردوغان، وهذا لا يعني انه لن يستخدم اوراقه جميعا جزئيا او كليا في مرحلة لاحقة.
لا شك ان الجماعات المسلحة التي هاجمت كسب مثل جبهة النصرة التي اعلنت معركة الانفال في اللاذقية تضم مقاتلين عقائديين اشداء يقاتلون حتى الشهادة حسب قناعاتهم، ولكن المدافعين عن الساحل الشمالي السوري اشداء ايضا يدافعون عن ملجأهم الوحيد وظهورهم للحائط، ويدركون جيدا ان خصمهم لن يتعامل معهم برأفة وبتسامح بالقياس الى تجارب في مناطق اخرى.
اردوغان سيكسب تعاطف الكثير من الاتراك لانه يحارب عدوا اخترقت طائراته الاجواء التركية تصدى له بشجاعة، وسيحول الانظار جزئيا او كليا، عن ازماته الداخلية، وقد يوحد الشعب في مواجهة عدو خارجي، ولكن التورط عسكريا في ازمة كهذه رفضت امريكا العظمى التورط فيها خيار صعب محفوف بالخاطر، ونعتقد انه رجل يتمتع بالخبرة والدراية والدهاء بحيث يتجنب الوقوع في هذا المستنقع الدموي، ويخسر بالتالي كل انجازاته العظمى التي قدمها لبلاده سياسيا واقتصاديا وجعلته موضع اعجاب كثيرين داخل تركيا وخارجها.