سيهانوك ديبو
إن اللوحة السورية الآنية و التدافع في الرؤى لوقف مشاهد العنف و النخر العميق في بنية المجتمع السوري و الدولة السورية من قبل القوى العالمية و الدول الإقليمية تفرض توجهات شديدة الخصوصية في مقاييس الحل السوري على كافة مناحيه الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، و لعل التعثر الحاصل للحل و اصرار الحل من طرف الرغبة الدولية و أخير الاتفاق المبدأي لإيجاد مخارج الحل لا يمكن زجها زجاً اعتباطياً في معايير محددة، و هذا ربما سبب منطقي لكافة التقلبات في الرؤى و كافة التدرجات و البدائل منذ اللحظة الأولى من أجل الحل و حتى يومنا هذا، ما هو الحل؟ و إن لم يكن بالحوزة الدولية حلا سحريا آنيا فما هي اجراءات التحول الديمقراطي في سوريا؟ خاصة أن الكل داخلا و خارجا بات مقتنعا بضرورة الحل، و الأكثر قناعة من كل ذلك أن أي حلا لا يتضمن و لو بشكل نظري إلى وقائع التحول الديمقراطي السياسي في سوريا ليس حلا إنما المضي قُدماً في طريق اللاحل .
السيادة الوطنية و خفوت اكتفاء الكل التكويني
من المهم التعريف أولا أن السيادة الوطنية هي مجموعة الاجراءات و الممارسات و الأفكار التي تؤكد على شرعنة الإدارة الوطنية الاجتماعية في حيز الجغرافية و تحت راية واحدة ينتمي إليها الفرد و الجماعة في هذا الوطن، و اعتبار أن الاشارة إلى السيادة الوطنية مرتبطة بالحد ذاته بعناصر الاكتفاء التكويني، و التفاعل بين هذه العناصر من شأنه أن يخلق عدة حالات من أهمها حالة السيادة و الانتماء إلى السيادة الوطنية، بيد أنه و في الحالة السورية نشهد عدم اكتمال السيادة و عدم اكتمال عناصر التكوين، و الأخير أيضا له أسبابه و مسبباته الخاصة و العامة؛ المباشرة المُعوّمة و المخفية النافذة، و أبرز الأسباب حسب المقتضى التكويني ذاته: تبتدأ بالجغرافية الحرجة التي فُرضت على الشرق الأوسط بكليته، وهذا المبتدأ يعد العلّة الكبرى يضاف إليه وسائل التحقيق و المطلبية المراد منها و من أبرزها التقوقع العقدي نتيجة الانقسام الأفقي في المجتمع السوري، و شواكل الانقسام متعددة لعل أهمها التعصب العقدي و الانعزال الطائفي و الاستعلاء القومي.
إنّ الحراك الثوري الشعبي المشهود له سوريا في 15 آذار عام 2011 بدأ سريعا ليرأب هذا القلق؛ و لكن و بالسرعة نفسها أُجْهِزَت عليها من قبل مشاهد و نتائج العنف المجتمعي و فوضى السلاح و التدويل يضاف إليها كلها بل و يتقدمها الأغلفة النووية لزمرة الاستبداد ذاتها، فسقط مفهوم السيادة الوطنية في الذهنية المجتمعية السورية المتكونة لأنه أفرغ و بفعل العناصر المضادة للحداثة الاجتماعية الديمقراطية من محتواه التحرري و من الهدف المنشود للحرية و استبدالها بطوارئ و مشاهدات غريبة عن الجوهر المجتمعي السوري، و خاصة عندما تم استدعاء و زج ” الغرباء” إلى الحراك الثوري السوري، فكل ما شاهدناه من انزياح في القيم و الانطلاق عكساً كان من أسبابه الدخول المعلن للاستطالات الخارجية و هذه وفق قناعتي الأبرز و الأخطر و الطور المغاير لجوهر الثورة، ربما كان التبدي الواضح لإدارة الأزمة. و عنصر النعمة السورية و المتمثل أشده بالشكل الفسيسفائي تحول إلى النقمة و إلى رؤى لظاهرة ” الكومة الاجتماعية المنفجرة” و التي سيطرت على كل مشاهد الاجتماع الحضاري و اردتها جانبا بل مخلفا إلى الأخير، و عناصر الصحوة الوطنية و الثورة الحقيقية قامت بأدوار ثانوية، قياسا بحجم مهمة التغيير، ربما لم تمنح الفرصة الكافية، و ربما منعت من ممارسة أدوارها، لكنها في كل الأحوال بقيت و لم تُنهى.
أنماط نظرية لفعل التحول الديمقراطي
إن أي فعل ثوري لا يستند إلى ذهنية اجتماعية شاملة و نظرية حداثوية ديمقراطية و عقيدة ممنهجة وفقها يصاغ الفعل الثوري و وفقها تتحدد السلوكيات الثورية؛ لا يمكن توسيمه بالثوري لأنه يدور بدائرة مغلقة خاوية من الاطروحة الديمقراطية، فيتحول و ضمن تلك الدائرة أو الدوائر إلى فعل عنفي ثأري انتقامي، و هذا الفعل الغريب يتحول بحد ذاته إلى صد لأية محاولة تفضي إلى صوغ عقد اجتماعي رشيد، و الكل يحقق الخير منه من الحاجة و الحرية و الحقوق.
تتزاحم التخمينات والدراسات التحليلية و البحوث القصيّة لتحاول إيجاد أجوبة واضحة غير مبهمة و غير قلقلة عن مستقبل سورية الديمقراطيّ ومآلاته، و لعل “أبرز “ما أُتفق حوله؛ ينصب و بشكل مباشر في خانات ذهنية ثلاثة و تتوحد في أنماط فكرية ثلاثة :
الشكل الحداثوي للتحول الديمقراطي
مفاد هذه النظرية الرؤية المعيارية و النظرة المقدارية و التي ترتبط بمؤشرين و بعلاقة طردية بينهما، الجانب الأول يكمن في تحصل الديمقراطية و الجانب الثاني منه ( انعكاسات و نتائج للأولى ) و هي تضم مناحي المجتمع في الاقتصاد و الاجتماع ، وفق الجدول التالي يتبين الطردية بين محدد السبب و محددات النتائج:
المحدد الأول معايير المحدد الثاني
النتيجة
الديمقراطية مناحي التطور المجتمعي المجتمع
مؤسسات المجتمع المدني
القاعدة الانتاجية و البيئية
المؤسسات التعليمية
القطاع الصحي
المشهد الاقتصادي
و وفقا لرؤية و مدرسة النمط التحديثي فإن مقياس الديمقراطية هو معيار التطور في البنى التحتية و البنى المجتمعية .
و ما يعيب هذه النظرية هو استحكام التصور الرياضي لقيم المجتمع، فبالرغم من المقاربة النوعية بين البيولوجيا و الاجتماع تكاد تكون مفيدة و معبرة في أغلب آحايينها، لكنه و من العبثية تجبير مجتمع كامل وفق قواعد و بنى رياضية صرفة، أي أن الاقتراح القسري بين السبب و النتيجة أو الايحاء إلى متلازمة بين التطور الاجتماعي بالآلة وحدها له مردٌّ سلبي؛ من شأنه أن يتعامل مع الإنسان وفق نمط الذكاء التحليلي فيتحول الانسان نفسه إلى آلة أو جزء من الآلة الكبيرة، على العكس من ذلك فإن تجارب بعض من الدول في أمريكا الجنوبية كالبرازيل ، و بعض من الدول الآسيوية كماليزيا، أحدثت حالات متطورة من التنمية الاقتصادية و الاجتماعية دون أن يكون متلازما بالحد الموصوف لتعالي الديمقراطية السياسية و دورها الأوحد في تحسين مستوى العيش المجتمعي، مثال آخر لذلك بعض من الدول الأوربية و التي اعتمدت في سياساتها نفسا كبيرا من الديمقراطية البرلمانية كاليونان و إيطاليا و حتى أمريكا نفسها، نلاحظ أن أنظمتها الديمقراطية البرلمانية لم تحقق الارتقاء المطلوب في مستوى العيش أو مستوى التفكير الحر غير المنقاد. بل ساهمت بنفسها في تأزم مجتمعاتها و التي تأذت (أخلاقيا- حضاريا) قبل كل شيء و نحت بعضها إلى اشهار الافلاس الكامل( اقتصاديا)، هل يعني ذلك أنها إيذانٌ على إفلاس ديمقراطياتها أيضا؟
الشكل البنيوي للتحول الديمقراطي
أصل هذا النمط و فكرته الأصيلة في تناول و شرح كينونة التطور و التحول إلى الديمقراطية لدى الشعوب و المجتمعات تتعين بالمسألة الاقتصادية كبنية تحتية تحدد البنى المرتبطة بها بل و العاكسة لها. التطور في البنية التحتية ينعكس طردا و كل أقسام البنية الفوقية: الثقافة و الفن و الدين و الأخلاق …الخ، و هذا ما حدا أن يسمي أتباع هذا النمط بنمط الانتاج الاجتماعي، و أن المجتمع يتشكل من طبقات مرتبطة بوسائل الانتاج، و اعتبار أصل الظلم الحاصل مخلوق من التفاوت الطبقي، و نتيجته فإن المجتمع ينقسم إلى طبقتين: حاكمة لوسائل الانتاج و محكومة و تكون الثانية متدرجة في المجتمع بدءا من الفلاحين و الزراعيين و العمال و صغار الكسبة و الحرفيين …و نتيجة التفاوت يُخلق حالة من الصراع الطبقي فيطرح في المحصلة طباقا( وفق التحليل البنيوي) للمتناقضين تكون نتيجتها حتمية لصالح العموم.
ما يعيب نمط البنيوية في التحول
1- تغييب البنيان الثقافي كحامل أساس من حوامل التغيير المجتمعي مع التطور الاقتصادي و احلال الأيديولوجية الصرفة بدلا منه، و هذا ما يفسر على الأغلب في اختفاء الطبقة الوسطى.
2- التفسير البنيوي للتغيير و من ثم إلى التحول قد يكون مفيدا في تفسير مراحل سابقة أو لاحقة، و لكنها لا تستطيع وفق هذه الرؤية الأحادية تفسير كل مراحل التغيير في التاريخ، و ظواهر” القفز الاقتصادي” في عمليات التنمية الاجتماعية في بعض من بلدان العالم الثالث لم تخضع لوانين الصيرورة البنيوية.
3- تأكيد هذه الرؤية على الدور المعلن و الوحيد للطبقة كأساس لعملية التغيير، و هذا بدوره يتحول إلى تشيء سلبي يفوق سلبية الآلة نفسها في النمط الحداثوي الرأسمالي، هذا التشيؤ يخلق الديكتاتوريات، فليس من المعقول أن تكون مكامن التغيير و التطور و التحول مخالفا لحيثيات الديمقراطية و البنية المجتمعية الشاملة، الطبقة و هي التي تتحول إلى سلطة تتحكم بمقاليد الدولة بسبب عمودية التصارع و عمودية الحوكمة فعمودية السلطة و هذا أحد أبرز نقاط الضعف، خلق حالات الخنوع الجمعي بدلا من تأسيسات التفاعل المجتمعي .
4- إن مثل هذه النمطية عندما تتموجد تخلق حالة متقدمة من الخوف المزدوج، الطبقة الحاكمة تخاف من المجتمع الذي يحكمه بسبب القوة المفرطة في تسيير محددات النظام و الخوف هنا من عدم الرضى و من ثم زيادة احتمالية السخط الشعبي أو الاجتماع أو حتى الثورة. و الخوف الثاني : هو ذو المنشأ الدولتي، أي خوف الدولة من الدول الأخرى و المخالفة لها بأنماط الحكم، و هذا ما يدفع إلى المزيد من التصارع الخارجي و التماثل في السلوك، و ربماهذا ما يفسر و بشكل كبير جدا انهيار جمهورية مهاباد الكردية في العام 1946 نتيجة التوافقات الدولتية بين الاتحاد السوفياتي و أمريكا و بريطانيا؟ فالسلوك البيني ( الداخلي) المختلف في تلك الدول و اختلاف أنماط الحكم فيها لم تمنع من تطابق في الممارسة الخارجية ازاء قضايا الشعوب ….الكل ساهموا مجتمعين بإسقاط مهاباد، طبعا إلى جانب العوامل الذاتية الكردية نفسها.
الشكل السياسي للتحول الديمقراطي
يؤكد أصحاب هذا النمط أن أساس التحول إلى الديمقراطية مُعِدٌّ في العمليات السياسية، أي أن النخب السياسية و نتيجة عمليات التشارك بين هذه الأنخاب المختلفة و التي تصل إلى سدة الحكم عن طريق الانتخابات و من ثم التحالفات على أساس التنوع و الاختلاف. قد تنشأ حكومة من تحالفات متناقضة لكنها متساوية في الانتماء إلى الوطن، و وفق أصحاب هذه النمطية يكمن أساس عملية التحول الديمقراطي . و من أبرز دعاة هذه المدرسة هو عالم الاجتماع الأمريكي ” دانكوارت روستو” . و في الفترة المعاصرة يبرز “صموئيل هنتغتون” أبرز الدعاة بعد أن طرأ تغييرا على المبدأ نفسه فاستبدل التحول بالانتقال و شرحها بأربعة مناحي :
– الانتقال الاصلاحي إلى الديمقراطية و من الحكومة نفسها
– الانتقال عن طريق استبدال زمرة حاكمة بزمرة معارضة لها تحكم من بعدها
– قد يحدث الانتقال عن طريق التطعيم أو التحول الجزئي
– أو حسب هينتغتون قد يكون الانتقال مفروضا من خارج الدولة وفق مصالح الرؤية الدولية و بالقوة و مثال ذلك : ما حدث في البوسنة و بنما و العراق و في ليبيا و ما كان متوقعا أن يحدث في سورية.
التحول الديمقراطي في سوريا
إن تحديد معالم المستقبل السياسي السوري على المنحى النظري سيكون بمثابة أحد أبرز العمليات الصحيحة و بمثابة طي ملف العنف الممنهج الذي نال من المجتمع السوري طيلة الخمسين عاما المنصرمة و وصلت ذُراها في العامين الأخيرين، و ما نتج عن هذا العنف من مظاهر ربما ستسمر لعقود و عقود، حتى و لو كتب لهذا العنف أن يتوقف. لا يفهم من هذا أنه الهروب إلى الأمام بل التحرك إلى الوضع السوي، يتم تحديد الأهداف أولا و هي التي تحقق تحديد الطريق إلى التحول الديمقراطي السياسي في سوريا و من ثم وضع الآليات النافذة و الحاسمة لتحقيق ذلك من شأنها أن ترأب أسس النقص التكويني في عناصر الاجتماع السوري مرة أخرى و الذي كما أشرنا إليه سابقا فاض مشهده بالعنف و الدماء و الانقسام المجتمعي.
إن عملية التحول الديمقراطي في سوريا لن تكون سهلة و لن تكون مرهونة في جنيفا2، رغم مفصلية جنيفا2 التاريخية، لأنها ستعد بمثابة استحقاق تاريخي للسلام و قد أشرت إلى ذلك في دراسة تحليلية في نهاية أيلول المنصرم .
إن ضرورة توفر الذهنية الوطنية؛ ذهنية السلام و التوافق من أبرز عوامل و من أبرز آليات التحول الديمقراطي في سوريا، و الامتثال لرغبة السلام، فأولى مداخل الحل تبتدأ بالذهنية و ليست بالجبرية و الامتثال فقط للرؤية و الحل الدولي الذي يبرز الآن بكامل حلته و جعابه و التي من المؤكد أنها عازمة على الحل بتسوية سياسية من أهمها الالتزام و التأكيد على قرارات جنيفا1 الستة، و من أبرزها تشكيل حكومة وطنية انتقالية تعددية تضم كافة ألوان الطيف السوري و تكون بصلاحيات حقيقية و تنفيذية تضمن انسيابية في الحل، و بالتأكيد هذا لن يتحقق في ليلة و ضحاها و بالتأكيد أيضا سنحتاج كسوريين حتى تتحقق ربما إلى جنيفا3 و 4 أيضا، و إلى عدة إجراءات تسبقها أيضا و المتعلقة بالإفراج الفوري عن كل المعتقلين السياسيين و تفعيل و ضمان كل الخطوات التي تخدم وقف العنف المجتمعي و تثمن الأثر القيمي و المادي و تبعياته المجتمعية للسلام. و من المهم هنا أن نحدد أن أهم معترضات جنيفا2 حتى اللحظة هو مصير الأسد و مسألة إشراك إيران و عدها أنها جزء من الحل و التحليل هنا عائد إلى المطبخ السياسي و الذي يعد طبخة السلام السورية.
إن أبرز المعترضات و أبرز المهمات قبل هذه الرؤى كلها، لا بد من العمل سوية من أجل تشكيل (الهوية الوطنية) و التي لا زالت متبعثرة و لا زالت تصطدم بجبل التأدلج العروبي و التسييس الاسلاموي سبب و أصل مشكلة و نقص الاكتفاء الذات السورية في تكوين الهوية الوطنية. و المعياران الأساسيان من أجل تلمس الهوية الوطنية السورية مكمن في مدخلين:
أولاهما- شكل و صيغة الإدارة في سورية المستقبلية و التي لا بد أن تكون على صيغة الدولة السورية الحداثوية الديمقراطية ، فالصيغة المدنية المطروحة ليست إلا تحدثا للصيغة الدينية القديمة و هذا لن يفي بالمطلوب.
ثانيهما- إيجاد حل ديمقراطي و دستوري للقضية الكردية في سوريا وفق محددي الشعب و الأرض و وفق المعايير و المعاهدات الدولية.
و يبقى السؤال الأكثر ترددا: هل هناك موازاة بين الرغبة الدولية لإيجاد الحل و بين الرغبة السورية الداخلية؟