بعد 5 أسابيع من القتال في مدينة كوباني الكردية، بدأت سيكولوجيا الترويع والذعر التي يبثها تنظيم «داعش» في التراجع والتفكك. كان التنظيم الإرهابي يحسب أنه سيجتاح المدينة بسرعة، على ما جرى عندما انهارت المدن العراقية أمامه، وتبخر 60 ألف جندي عراقي كانوا في الموصل، وفروا تاركين وراءهم كميات كبيرة من الأسلحة الحديثة!
صمود الأكراد المفاجئ في كوباني، جعل «داعش» تضع كل ثقلها في المعركة؛ ليس لأنها تريد توسيع رقعة سيطرتها إلى الحدود التركية فحسب، بل لأنها أدركت أن عجزها عن اجتياح المدينة، سيشكل بداية لانهيارها وتهاوي صورتها القائمة على البطش وإثارة الذعر.
الآن، هناك كثير من الحسابات بدأت تتبخر مع دخان الحرائق المندلعة في كوباني، في مقدمها حسابات تركيا التي راهنت على أن الخوف الدولي من ذبح المدينة سيدفع واشنطن إلى الموافقة على شروط رجب طيب إردوغان للانضمام إلى «التحالف الدولي»، التي تنبع من أحلامه باستنهاض دور عثماني معاصر لتركيا في الإقليم!
اصطدمت شروطه برفض إقليمي ودولي، فمطالبته بإقامة منطقة حظر للطيران شمال سوريا، تحتاج إلى قرار من مجلس الأمن سيواجه بالفيتو الروسي، وحزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي» الذي يقاتل في كوباني هدد بالتحول إلى قتال تركيا إذا بسطت سيطرتها على تلك المنطقة، أما اشتراطه إسقاط بشار الأسد فيلقى رفضا أميركيا ضمنيا، ينطلق من الاقتناع بأن تشكيل المعارضة القادرة على ملء الفراغ يجب أن يسبق إسقاط الأسد، ثم إن روسيا وإيران تعارضان إسقاطه.
منذ إطلاق الرهائن الأتراك من القنصلية التركية في الموصل بطريقة ملتبسة، نشرت تقارير كثيرة في أنقرة وخارجها عن رفض إردوغان دخول التحالف الدولي أو القيام بأي عمل ينقذ كوباني، ففي النهاية هذه مدينة كردية «وإردوغان مستعد ليقطع عنها حتى الهواء» كما يقول الأكراد، ولهذا استمر في منع دخول الأكراد لدعم رفاقهم وأغلق قاعدة أنجرليك أمام المقاتلات الأميركية، في حين اتهمته الصحف التركية بأنه سمح بفتح مكتب اتصال لـ«داعش» في إسطنبول!
المفاجأة التي بدأت تقلب الموازين وتسقط الحسابات جاءت من المقاتلين الأكراد، ذلك أن سيكولوجيا الترويع الداعشي تتهاوى أمامهم في كوباني، وتتراجع «داعش» أمام البيشمركة التي استطاعت استيعاب الهجوم الإرهابي في مناطقها بالعراق.
مباشرة بعد سقوط الموصل، تدفقت المساعدات العسكرية على البيشمركة ليرتفع صراخ أنقرة التي أعلنت أن «تسليح الأكراد قنبلة موقوتة ستفجر المنطقة»، بينما يصر إردوغان دائما على وصف الأكراد بالإرهابيين، لكن صمود «الحزب الديمقراطي التركي» و«وحدات حماية الشعب» في كوباني بدأ يخلط الأوراق ويعيد الحسابات.
الأسبوع الماضي، فاجأتنا واشنطن بالحديث عن «الخيار الكردي»، بعدما أعلنت وزارة الخارجية الأميركية عن اجتماع عقده أحد كبار المسؤولين مع وفد من حزب «الاتحاد الديمقراطي الكردي» في باريس، وقد أحيط الاجتماع بأهمية كبيرة، مما يدعو إلى التساؤل:
هل يدخل الأكراد بديلا من تركيا في التحالف الدولي، وخصوصا بعد الوقائع الميدانية في أربيل حيث استبسل البيشمركة، ثم في كوباني حيث أثبت الأكراد فاعلية وجدارة وتميزوا بأداء قتالي مثير رغم تدني مستوى تسلحهم؟
لقد أصيبت تركيا بالحمى، فكان الاتصال الهاتفي بين باراك أوباما وإردوغان العائد من أفغانستان، ثم بدأت التحولات، أولا عندما قامت الطائرات الأميركية بإلقاء كميات من الأسلحة والذخائر والإمدادات الطبية إلى الأكراد في كوباني، ثم بعد أقل من ساعتين عندما أعلن وزير الداخلية التركي أن أنقرة التي كانت تمنع عبور المقاتلين لدعم كوباني، ستسمح للأكراد بالعبور لمساندة رفاقهم.
المضحك أن أنقرة حاولت حفظ ماء وجهها بالقول إن الطائرات الأميركية التي ألقت المساعدات في كوباني لم تحلق فوق الأراضي التركية، وإن الأكراد الذين جاءوا من سوريا فقط مسموح لهم بالعبور إلى كوباني لكن من دون أسلحة، بينما يمنع عبور أي مقاتلين من جنسيات أخرى، أي الأكراد الأتراك ورجال البيشمركة الذين قرروا الذهاب إلى كوباني!
جون كيري ألقى مياها باردة على الحمى التركية عندما أعلن أن إلقاء المساعدات العسكرية في كوباني لا يعني تغييرا في الموقف السياسي الأميركي من المسألة الكردية، لكن التطور المثير في الموقف الأميركي حيال «الخيار الكردي» يفرض بالضرورة طرح أسئلة ضرورية وخبيثة، لعل أبرزها:
– إذا كانت واشنطن تطرح «الخيار الكردي» بديلا من تركيا في التحالف الدولي وتشيد بالمقاتلين الأكراد، فإلى أين يمكن أن يقود هذا مستقبلا من الناحية السياسية، وخصوصا على خلفية طموحات الأكراد (25 مليونا) إلى إقامة دولتهم، بعدما حصلوا في العراق على حكم ذاتي، وأقاموا في شمال سوريا ما يشبه الكانتون!
– بعد أقل من 4 أيام على طرح شعار «الخيار الكردي»، أعلن الأكراد السوريون من دهوك إقامة إدارة ذاتية لمناطقهم أطلقوا عليها اسم «روجافا» أي غرب كردستان، ويريدون إجراء انتخابات نيابية وتشكيل قوات للدفاع، بينما تقول صحيفة «التايمز» إن النقاشات في دهوك ركزت على إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط، وهو ما يمثل شحذا لسكاكين التقسيم!
– لماذا لم تحصل المعارضة السورية التي ذبحت وتذبح منذ 4 أعوام تقريبا بالطائرات ومدافع الميدان وحتى بالسلاح الكيماوي، على أي دعم أو تسليح أميركي كما يحصل مع الأكراد اليوم، هذا سؤال ضروري: لماذا تعامت واشنطن عن سقوط 200 ألف قتيل ومئات آلاف الجرحى وملايين المشردين وعن دمار سوريا التي حولتها مذابح النظام، رحما ولدت منه «داعش» وأخواتها؟
– ولماذا انهالت شحنات السلاح على البيشمركة بسرعة في أربيل التي تنادي علنا بقيام الدولة الكردية؟
– ولماذا التمسك بالأسد، هل في انتظار المعارضة المقتدرة أم في انتظار أن تمهد الفوضى المسلحة لترسيم التقسيم على الأرض؟
– ولماذا جرى تسليم العراق إلى نوري المالكي أي إلى إيران، وطال التعامي عن سياساته الإقصائية والكيدية أعواما، وهو ما عمق الكراهيات التي من رحمها سيخرج «الدواعش» في العراق؟
في كوباني يمكن التقاط أطراف خيوط لعبة جهنمية تدفعني إلى التساؤل:
هل يمكن إعادة الحلم الكردي بالدولة إلى قمقم المعارضة الإقليمية المزمنة تركية وإيرانية وعراقية وسورية؟ وهل يمكن تصور بقاء الأسد إلا في سويا مقسمة، وهل يمكن أن يصلح حيدر العبادي ما أفسد المالكي في العراق… وهل تصمد الجغرافيا والحدود أمام سعير النيران وهياج الرغبات التقسيمية؟