المشكلة التي بقيت تعانيها المعارضة السورية هي أنها لم تستفد من تجارب غيرها، وبخاصة الثورة الفلسطينية، وأنها سلمت نفسها للاستقطاب والتمحورات العربية والإقليمية، ولذلك فإنها أضاعت فرصاً سانحة كثيرة لتحقيق الانتصار لشعبها الذي قدم تضحيات كان من المفترض أن توصله إلى هدف إسقاط نظام بشار الأسد الذي سلم بدوره رقبته للمعسكرات المتنافسة، إقليمياً ودولياً.
إن بالإمكان إيجاد المبرر “المقنع” للمعارضة السورية، التي لا يستطيع أحْدث “حاسوب” في الكرة الأرضية ضبط أعداد فصائلها وجماعاتها ومجموعاتها، بالإشارة إلى أن استمرار حكم عائلة الأسد لأكثر من أربعين عاماً قد دمَّر الحياة السياسية في أول بلد عربي عرف الديمقراطية والأحزاب والانتخابات البرلمانية والرئاسية، وأن انتفاضة عام 2011، التي بدأت شرارتها من درعا، كانت انتفاضة عفوية وسلمية، وأن النظام هو الذي حرفها عن خط سيرها وحولها من حركة شعبية احتجاجية إلى مواجهة عسكرية.
إن هذا معروف ولا يمكن الدخول في نقاش وجدل حوله، ولكن مع أن المعارضة السورية قد افتقرت إلى التنظيم الطليعي، القادر على لملمة الجميع في جبهة عريضة تلتف فصائلها وتنظيماتها الصغيرة والكبيرة والفعلية و”الخُلَّبية” حول هدفٍ واحدٍ هو إسقاط هذا النظام والمباشرة فوراً في إنشاء نظام ديمقراطي “جماعي” لا يستثني أحداً، لا على أساس سياسي أو عرقي أو مذهبي، فإنه كان بالإمكان انتشال الوضع بسرعة بالاتفاق على تشكيلٍ جبهوي سياسي بذراع عسكرية، لديه القدرة على إغلاق الأبواب أمام التدخلات الاستخبارية والمخابراتية الخارجية ولديه القدرة على التصدي للتسربات الإرهابية ووضع حد للتشكيلات والتنظيمات “الشوارعية” التي أصبحت تشكل عبئاً كبيراً على الثورة ومسيرتها وأصبحت تشكل نوافذ سهلة للاختراقات الخارجية.
كان هناك عشية انطلاق الثورة الفلسطينية عام 1965 وبعد ذلك، وبخاصة بعد كارثة يونيو عام 1967، أكثر من ثلاثين تنظيماً فلسطينياً، من بينها تنظيمات “مايكروسكوبية” ادَّعت أنها “ماوية” نسبة إلى الزعيم الصيني صاحب مسيرة الألف ميل، ماوتسي تونغ، لكن ليس مع الوقت، ولكن في الوقت نفسه، تمكنت حركة “فتح”، التي كانت ولاتزال تشكل ائتلافاً عريضاً اتسع لكل الآراء الأممية والقومية والدينية والوطنية الفلسطينية، من فرض توجهها على الجميع كما تمكنت من السيطرة على قرار منظمة التحرير التي اعترف بها العرب في قمة الرباط عام 1974 على أنها “الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني”.
لقد كانت هناك اختراقات “عربية” وإقليمية، ودولية أيضاً لمسيرة العمل الوطني الفلسطيني، وما لا يمكن إنكاره هو أن بعض هذه الاختراقات لاتزال مستمرة حتى الآن، وحقيقة إن هذا، باستثناء الثورة الجزائرية، ينطبق على كل تنظيمات وحركات التحرر العربية الإفريقية لكن رغم ذلك فإنه كانت هناك دائماً “رافعة” رئيسية، وكان هناك الائتلاف الجبهوي القادر على فرض برامجه وتوجهاته ومواقفه على الجميع.
أما الحالة السورية فإنها، إذا أردنا قول الحقيقة، تشكل حالة فريدة مع أن المفترض أن تبرز خلال نحو أربعة أعوام من المكابدة والمعاناة والمذابح الجماعية ومن التدخل الإيراني والروسي السافر قوة رئيسية سياسية وعسكرية لها القدرة على ضبط الأمور ووضع حدٍّ لكل هذا التشرذم الذي تسربت من مساماته العديد من التنظيمات الإرهابية والكثير من الأجهزة الاستخبارية والمخابراتية العربية وغير العربية.
لكن رغم أن الواقع أصبح هو هذا الواقع، فإنه لاتزال هناك إمكانية لضبط العلاقات مع بعض الأنظمة العربية ومع بعض الجهات الإقليمية والدولية، وبخاصة بعد انتخابات الائتلاف الوطني الأخيرة، وإنه لاتزال هناك فرصة لانتشال الوضع وبلورة إطار ثوري تنضوي الغالبية في إطاره.
إن البداية قد تكون صعبة لكن لابد من أن تكون هناك بداية وأن تكون هناك تشكيلات عسكرية تراتبية تخضع لقيادة واحدة. إنه لابد من هذه الخطوة والآن… الآن وليس غداً، ويقيناً إنْ تمكنت المعارضة السورية من لملمة أوضاعها بسرعة فإنها ستتحول إلى بؤرة استقطاب فعلية لأفواج متلاحقة من الضباط والجنود الوطنيين الذين تأخروا في البقاء في إطار جيش النظام لأن “الثورة” قد تأخرت كثيراً في أن تصبح قوة جاذبة لهم ولغيرهم!