الولادة والعائلة : ينتمي الشيخ الشهيد إلى عائلة عريقة كردية تقطن في الجزء السوري من كردستان ، والكرد قوم يأنفون الذل ويأبون الضيم ويعتزون بأصولهم اعتزازا لا حدود له وقد نزلوا بلاد الشام إثر مقدم الناصر صلاح الدين مع عمه شيركوه اسد الدين حيث ساهموا مساهمة عظيمة في تحرير بيت المقدس وبلاد الشام وطرد الفرنجة الغزاة من حيث جاؤوا وقد حكموا بلاد الشام بكفاءة وإدارة ظاهرتين خلال فترة مضيئة لا نزال نسميها الفترة الايوبية .
غير أن الكرد لاقوا نتيجة لذلك المرارة الكثيرة من إخوانهم المسلمين تارة واعدائهم تارة آخرى ولعل اكثرها شدة عقب الحرب الروسية التركية والتي كان انتهاؤها في معاهدة باريس 1855 ظلما ظاهرا للأكراد حيث فصلت تلك المعاهدة حقوق الشعوب في منطقة الشرق الأوسط من غير إشارة إلى حقوق الأكراد .
وعائلة الشيخ الشهيد هاجرت من قرية با يزيد في الجزء التركي من كردستان وسكنت قرية خزنة في كردستان سوريا عند هجرة جده الملا صوار ونسبوا بالخزنوية نسبة إلى الجد الشيخ أحمد الخزنوي الذي كان يمارس دعوته انطلاقاً من قريته خزنة التي نسب إليها فيما بعد , وهذه العائلة تعتبر من أهم المرجعيات الدينية إن لم تكن أهمها في المنطقة قاطبة بل امتد نفوذها فيما بعد إلى شتى البلاد وخاصة تلك التي هاجر إليها الأكراد بما في ذلك أوروبا .
والشيخ أحمد الخزنوي الذي تنتسب هذه العائلة إليه هو فقيه وداعية إسلامي كبير ومربي مشهود له في المنطقة توفي سنة /1950 ميلادية في تل معروف ودفن فيها
الدكتور محمد معشوق هو ابن الشيخ عزالدين الخزنوي الابن الثالث للشيخ احمد ولد عام 1921 وتوفي في 1992
ولد الشيخ معشوق في 25 / كانون الأول / 1958 ميلادية في دار الشيخ عز الدين في قرية تل معروف 30 كم جنوب شرق قامشلوا
ولله در ابيه فقد كان يتوسم ويتفرس في مولوده النجابة والتوفيق ولذلك اسماه معشوقا عربونا لعشقه لهذا الوليد
المسيرة العلمية : درس الدكتور محمد معشوق الخزنوي مبادئ العلوم الشرعية على مجموعة من أهل العلم وفي مقدمتهم والده الشيخ عز الدين الخزنوي رحمه الله تعالى ثم بعد ذلك في المعهد الشرعي الذي أسسه جده في قرية تل معروف إلى جانب دراسته النظامية في مدارس الدولة التي نال منها الإعدادية عام /1974/ميلادية والثانوية العامة الفرع الأدبي عام / 1977 /، كما انتسب الى معهد إسعاف طلاب العلوم الشرعية بباب الجابية في دمشق والذي كان يعرف آنئذٍ بمعهد الأمينية فقُبل في السنة الأخيرة لتميُّزه على أقرانه ونال شهادتها عام/1978/ميلادية بتقدير/ممتاز/ ولذلك رشحته إدارة المعهد لاستكمال دراسته في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة حيث حصل منها على درجة الليسانس في الشريعة الإسلامية عام – 1984 – ميلادية وعمل بعدها في مجال الدعوة مدرساً وخطيباً في المساجد والمعاهد الشرعية في أكثر من منطقة في سوريا الى لحظة استشهاده, الأمر الذي أخذ عليه جل وقته بل أعاقه عن استكمال دراسته العليا حتى استدرك ذلك في وقت متأخر حيث نال درجة / الماجستير في الدراسات الإسلامية/ عام /2001/ميلادية من كلية الإمام الأوزاعي بلبنان عن أطروحته / الأمن المعيشي في الإسلام / وكذلك نال درجة الدكتوراه أيضاً في الدراسات الإسلامية من الجامعة الإسلامية بكراتشي بباكستان عن أطروحته / التقليد وأثره في الفتن المذهبية / .
الخبرة العلمية :عمل الشيخ مدرساً وأستاذاً في المعهد الشرعي بتل معروف مدة اثنتي عشرة سنة بين عامي /1977 و1989/ حيث حصل بينه وبين القائمين على المعهد خلاف في تجديد منهاج المعهد خصوصا ومسيرة الدعوة عموما وفي مقدمتهم والده الشيخ عز الدين الخزنوي وذلك بعد أن أغلقت الدولة المعهد مرتين في تلك الفترة بسبب غياب النظام والمنهاج عن المعهد وتحول الطلبة في بعض الأوقات إلى مجرد جنود انكشاريين يغيرون على الفلاحين ويضربونهم ويحرقون مزارعهم ويهدمون بيوتهم وفي أوقات أخرى إلى عمال في مزارع الشيخ أو جامعي الحطب للتكية في مزارع الناس وعلى إثر ذلك غادر الشيخ إلى مدينة إدلب بعد تباين واضح بين فكره وفكر والده التي كانت تمهد لتلك الممارسات السابقة .
استقر الشيخ معشوق في إدلب حيث عمل خطيبا ومدرسا في مساجدها بالإضافة إلى التدريس في الثانوية الشرعية حتى توفي والده عام /1992/ حيث انتقل إلى القامشلي وعمل من ذاك التاريخ خطيبا في مساجد البلدة حتى تاريخ استشهاده ؟
المشاركات : شارك الدكتور معشوق خلال السنوات العشر الماضية في نشاطات متعددة منها
- المجلس العالمي للدعوة والإغاثة القاهرة 1995
- مؤتمر حوار الديانات الثاني الخرطوم 1995
- برنامج تكريم أهل القرآن مكة 1995
- مؤتمر أهل البيت المستشارية الإيرانية 1995
- ندوة تجديد الفكر الإسلامي بيروت 1996
- مؤتمر القرآن الكريم المستشارية الإيرانية 1996
- مؤتمر التقريب بين المذاهب الإسلامية الرباط 1996
- المجلس العالمي للدعوة والإغاثة القاهرة 1997
- مؤتمر السيرة النبوية المستشارية الإيرانية 1996
- مؤتمر مئوية الإمام الخميني المستشارية الإيرانية1999
- مؤتمر الوحدة الإسلامية بيروت 1999
- مؤتمر تقريب المذاهب الإسلامية حلب2000
- مؤتمر المجلس العالمي للدعوة والإغاثة القاهرة 2001
- المنتدى الإسلامي العالمي للحوار القاهرة 2001
- المؤتمر الرابع للشباب الإسلامي الرياض 2002
- مؤتمر إصلاح المناهج بالأزهر القاهرة 2004
- ندوة تجديد الخطاب الديني جامعة دمشق 2004
- مؤتمر الإجتهاد وضوابطه مجمع أبي النور بدمشق 2004
- جلسات لجنة العمل الإسلامي المسيحي دمشق 2003 – 2004 طعضو مؤسس
- مؤتمر ( دور الأديان في صناعة السلام) في أوسلو في 7/2/2005
وأجرى سماحته عدة لقاءات صحفية وتلفزيونية منها :
- – لقائين مع قناة / Roj TV /
- – لقاءات ومقالات في التجديد نشرت في صحيفة الشرق الأوسط
- – لقاء مع مجلة / أسود وأبيض /
- – لقاء مع مجلة / فارس العرب /
- – ثلاث لقاءات مع قناة / العالم / وهي قناة إيرانية ناطقة بالعربية
- – عدة لقاءات في إذاعة القدس الفلسطينية التي تبث من دمشق
- – لقاء مع التلفزيون السعودي على هامش مؤتمر الشباب الإسلامي بالرياض
- – لقائين مع قناة / كردستان تي في /
ولتمام التعريف نشير إلى أهم نشاطات الشيخ
1- كان يدير مركز إحياء السنة للدراسات الإسلامية الذي أسسه في مدينة القامشلي
كمجمع لنشاطاته الدعوية والإصلاحية والعلمية والاجتماعية والصحية والوطنية .
2- www.khaznawi.com يشرف على موقع شبكة مركز إحياء السنة
3- خطيب الجمعة في مجمع البر الإسلامي بالقامشلي .
4- عضو مجلس أمناء مركز الدراسات الإسلامية بدمشق .
5- عضو مجلس أمناء مؤسسة القدس ببيروت .
6- عضو اللجنة السورية للعمل الإسلامي المسيحي المشترك .
7- عضو مؤسس لرابطة الكتاب التجديد يين
8- عضو اتحاد المثقفين الكرد
9- عضو في لجنة حقوق الإنسان الكردية – ماف –
منطلقات الشيخ الشهيد :
* انطلاقاً من قوله تعالى : ( ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن”)
*ورغبة في تحصيل الأجر الذي قال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم : (من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ) .
*وانطلاقــاً مـــن الفريضة الشرعية العظمى في الدعـــوة إلى الخير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي هي القطب الأعظم للدين، وهي وظيفة الأنبياء والمرسلين
*وإيماناً بضرورة تجديد الخطاب الإسلامي في جميع مجالاته، وبالأخص العقدي منه والفكري والفقهي والدعوي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي
*وقناعة بالأهمية القصوى لتنقية الفكـــر الإسلامي المعاصر مما علق به من الشبهات والانحرافات والبدع
*ومشاركة في بناء مجتمع إسلامي صالح يرفرف عليه العدل والمساواة والحرية ، ويستتب فيه الأمن والأمان ، مجتمع المحبة والأخوة والإيثار، وليس مجتمع الشح والأثرة والأنانية والاستغلال
*وتفكيكا للألغام الدينية المصطنعة التي وضعت في طريق نهضة الأمة جهلا من واضعيها أو تحقيقا لمصالحهم الخاصة وذلك قناعة من الشيخ الشهيد بأن تفكيك هذه الألغام سيسمح للأمة بتحمل مسؤولياتها في بناء مستقبلها وتلبية كافة احتياجات أبنائها الروحية والمعنوية بل الحياتية والمادية والمعيشية .
*وحرصاً علــــى حشـــد طاقات العاملين للإسلام، وتنظيم صفوفهم، والارتقاء بفكرهم، وتعميق فهمهم للإسلام، بما يخــــدم مســيرة الدعوة والحركة الإسلامية، وتطلعات الأمة الإسلامية، ونضـــال شعوبها المشروع من أجل التحرر والتخلص من الطواغيت البشرية الدينية أو الدنيوية.
لكل هذا فقد أحدث وأسس الدكتور محمد معشوق الخزنوي مع بعض الباحثين الإسلاميين المتنورين عام 2000 ميلادية في مدينة قامشلو في كردستان سوريا ، شمال شرق دمشق مركزا للدراسات الإسلامية كمركز إسلامي علمي اجتماعي غير حكومي .
فكر الشيخ: حمل الشيخ هم التجديد في الخطاب الديني وإصلاح المنظومة المعرفية الإسلامية بمختلف جوانبه التي تتلخص أهدافها فيما يلي :
· التعريف بالحضارة الإسلامية عبر وسائل الإعلام المختلفة.
· الإسهام في تفعيل الأطراف التي تجمع بين نشاطات تيارات التجديد في العالم الإسلامي.
· الإسهام في إحياء الاجتهاد الإسلامي وفق قاعدة احترام التعدد، وحرية الاختيار من الفقه الإسلامي، ونبذ التعصّب والتكفير. من خلال فك الاشتباك بين العقل والنص عن طريق منح النص ظروفه المكانية والزمانية: كأسباب النزول وأسباب الورود، وإحياء وسائل العلماء المجتهدين في التعامل مع النص من خلال تخصيص العام وتقييد المطلق وتأويل الظاهر والتوقف في النص وغيرها من الوسائل التي تجعل النص نوراً يقتدي به المهتدون وليس غلاً يحول دون ضياء العقل ونوره. وفتح منجم الفقه الإسلامي بكافة مذاهبه وتياراته التي تمثل أصدق تدوين للعقل الإسلامي في فترة النهوض الحضاري، والدعوة للاقتباس منه والاستنارة به وفق احتياجات الأمة.
· إحياء مقاصد الإسلام الكبرى ومنحها دوراً حقيقياً في التشريع، والتي تزيد على عشرة عناوين: كالتوحيد والعدل والخير والحب والجمال والعفاف والطهارة والحرية والمساواة والشورى وحسن الخلق.
· تصحيح العلاقة مع الله بحيث ترقى إلى رتبة العبادة بالمحبة والشوق ،
· تصحيح الفهم السائد للنبوة بحيث يكون الأنبياء قادة الكفاح الإنساني، ومدارس للتربية والحكمة، ودراسة نجاحاتهم و إخفاقاتهم على قاعدة السنن الإلهية في الأرض، والتأكيد على دور الأنبياء في إرشاد الناس إلى السنن الاجتماعية والسياسية والكونية، ومواجهة الغلو السائد في فهم النبوة والذي يحول دون التعامل الواقعي لرسالة الأنبياء في الكفاح الإنساني.
· التأكيد على الأخوة الإنسانية، والبحث عن المشترك بين الناس، في مختلف اتجاهاتهم الفكرية والسياسية والاجتماعية، وخاصة أبناء الوطن الواحد، على أساس القاعدة الذهبية: الخلق كلهم عيال الله وأحب الخلق إلى الله أنفعهم لعياله.
أهداف الشيخ الشهيد : سع الشيخ الشهيد الى تحقيق الأهداف التالية
النصيحة لكتاب الله وسنة رسوله بصيانتهما، ورعاية حفظهما وتعهد علومهما، والعمل بما جاء فيهما
النهوض بدور المسجد الريادي في التربية والرعاية وبناء الأجيال
التعريف بالحضارة الإسلامية عبر وسائل الإعلام المختلفة
الإسهام في تفعيل الأطراف التي تجمع بين نشاطات تيارات التجديد في العالم الإسلامي
الإسهام في إحياء الاجتهاد الإسلامي ، وفتح أبواب الإصلاح والتطوير حتى يتكون في الأمة جيل كامل من الفقهاء المجتهدين ، والمفكرين المبدعين المتميزين , وذلك وفق قاعدة احترام التعدد ، وحرية الاختيار من الفقه الإسلامي، ونبذ التقليد الأعمى والتعصّب والإقصاء والإلغاء والتكفير.
رفض الاستنساخ الفكري والعلمي والثقافي من خلال دعم حرية الفكر والإبداع ، ونبذ ممارسة الإرهاب الفكري سواء من قبل المراجع الدينية أو اللوبي الشعبي وما يسمى بـ ( العامة ) الذين يتحكمون من خلال الجاه أو المال في كثير من القرارات والفتاوى الشرعية 0
بذل كل الجهود وتسخير ما أمكن من الطاقات لمنح طلبة العلم والدعاة والمفكرين الحصانة العلمية اللازمة والتي منحها الشرع لهم وسلبها الآخرون منهم ليتمكنوا من وضع إبداعاتهم واجتهادا تهم بين يدي الأمة بكل جرأة و صراحة وصدق مع الله ومع عبادالله دون أن يتعرضوا لأية ضغوط ومضايقات وصولا إلى التخلص من الازدواجية في خطابهم الديني أو ما يسمى في عرفهم بـ ( خطاب الخاصة وخطاب العامة )
إفهام المسلمين أن منح الحصانة للعلماء والمراجع الدينية لا يعني إضفاء القداسة عليهم بحيث تأخذ الأمة أقوالهم وخياراتهم وفتاويهم على علاتها دون بحث وتمحيص كثوابت شرعية لا يسع الأمة الخروج عليها فليس في الإسلام رجال يحكمون باسم الله تعالى ولا باسم رسوله صلى الله عليه وسلم , وليس في الأمة أحد إلا ويؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم .
تربية المواطن المؤمن ليكون لبنة صالحة في بناء أمته، وليشعر بمسئوليته في خدمة بلاده والدفاع عنها . وتزويده بالقدر المناسب من المعلومات الثقافية والخبرات المختلفة التي تجعل منه عضواً عاملا في المجتمع وتنمية إحساسه بمشكلات المجتمع الثقافية والاقتصادية والاجتماعية ، وإعداده للإسهام في حلها .
الانتماء والهوية :
من الناحية السياسية : لم يكن العلامة الشهيد معشوق الخزنوي ينتمي إلى أية جماعة أو حزب عربي أو كردي معترف به أو محظور , وإن كان يهتم بالقضايا السياسية والإنسانية للمجتمع الذي يعيش فيه وفي مقدمتها قضية الشعب الكردي ومعاناته والحيف الذي لحق به وذلك استجابة لنداء الواجب الإنساني وقبل ذلك الديني وهو في النهاية جزء من مصداقيته في رسالته الدينية وترسيخ خطابه الإسلامي
المنهج الدعوي للشيخ الشهيد : يعتبر الشهيد الخزنوي صاحب رسالة ومنهج في الدعوة , وتتميز طروحاته في بعض الأحيان بالجرأة في الإصلاح والتغيير طالما كلفته الكثير من التضحيات
ولعلني أشير في هذه العجالة إلى أهم هذه النقاط التي ترسم منهج العلامة الخزنوي والتي تعتبر من قبل رجال الدين التقليديين سلبيات في منهجه تستحق الاستنكار والحرب وأحياناً التكفير والتفسيق وهي هذه
**********
التجديد الديني : يقول العلامة الدكتور معشوق الخزنوي عن التجديد الديني : وهو من أهم الواجبات التي حمّلنا النبي الكريم صلى الله عليه وسلم شرف حملها إلى جانب الكثيرين من شرفاء الأمة مستلهمين الهمة والشرعية من قوله صلى الله عليه وسلم {يبعث الله لهذه الأمة على رأس كل مأة من يجدد لها أمر دينها} وبين مهمة المجددين في الدين بقوله { يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ينفون عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين }
هذا وللتجديد شعب متعددة من أهمها
التجديد في العقيدة : وذلك من خلال العودة إلى الكتاب والسنة وتخليص العقائد السائدة في كثير من المجتمعات الإسلامية من البدع والشركيات وعبادة الأشخاص وتقديسهم والاستغاثة بعظامهم والاستمداد من رفاتهم والطواف بقبورهم والنذر لهم السجود لهم وتقبيل أعتابهم والحلف بهم وتعظيم صورهم والخوف منهم أكثر من الله أو محبتهم أكثر من الله وكذلك التحرر من الخرافة والشعوذة التي من خلالها يغسل كثير من رجال الدين أدمغة الناس ويستولون على إرادتهم وخاصة تلك البيئات المتأثرة بالفكر الصوفي الذي يعامل المريدين على أنهم عبيد للشيخ أو كما يقولون كالميت بين يدي الغاسل .
ولعل العودة إلى كتاب ( ومضات في ظلال التوحيد) الذي الفه الشهيد الخزنوي خير معين للتعرف على رسالتة التجديدية في مجال العقيدة والتي في مجملها تدعو إلى التوقف عند حدود الوارد في الكتاب والسنة وكما فهمه الصحابة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .
التجديد في الفقه الإسلامي : يقول الشهيد الخزنوي في التجديد في الفقه : لا يخفى على أحد أن لنا نصا شرعياً مقدسا ثابتا هو الكتاب والسنة الصحيحة في متنها وسندها , وهذا النص هو شريعة الله التي تعبدنا بها وطالبنا بالانقياد لها ولكن الذي جرى أن فقهاء المسلمين قد وضعوا تحت هذا النص شرحا ثم جاء من وضع تحت الشرح حاشية ثم جاء من جعل على الحاشية هامشا ثم جاء من وضع على الهامش تعليقا وهكذا …. وكان من الممكن أن تكون هذه الشروح والحواشي والهوامش والتعليقات عامل خير ومصدر غنى للفقه الإسلامي لو بقي ضمن حدودها كجهد بشري يخطئ ويصيب بذل صاحبه جهده للوصول إلى الحق أو الأقرب إلى الحق وهو صاحب أجر إن أخطأ أو أجرين إن أصاب.
ولكن الذي حصل أن هذه الشروح وأخواتها قد اكتسبت القداسة بجر الجوار كما يقول النحات وأصبحت اجتهادات الفقهاء قيوداً وأغلالاً في أعناق المسلمين ولم يعد بإمكان أحد أن تسول له نفسه أو تحدثه بحق مناقشتها فضاع الفقه وضاعت الأمة معه .
ومن هنا تأتي مهمة المستنيرين من أبناء الأمة في تحمل الرسالة التي حملها الأنبياء والمخلصون وكسر حاجز الخوف وإفهام الناس أن من حقهم مناقشة كل الآراء الفقهية واختيار الأصلح للأمة والأيسر على أبنائها ويحقق مصالح الأمة . فأجدادنا اختاروا من الأحكام ما يتناسب مع زمانهم وعلينا أن نختار منها ما يتناسب مع زماننا فالأحكام تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة والأشخاص والأحوال .
هذا ويمكن أن أشير إلى أن الشيخ الشهيد الدكتور معشوق الخزنوي في جهوده التجديدية كان يعتمد على بعض النقاط من أهمها :
آ – مقاومة التقليد الأعمى الذي يجعل من المجتمع مجرد قطيع تائه لا يدري إلى أين يوجهه الرعاة الذين يحرصون على استنساخ الأمة كصورة طبق الأصل عنهم أو عن الصورة التي يريدونها .
ب- التفريق بين النصوص المعللة وغير المعللة : وذلك من خلال التأكيد على أن النصوص غير المعللة هي نصوص تعبدنا الله بأحكامها ولا نملك حيالها إلا أن نقول سمعنا وأطعنا بخلاف النصوص المعللة فهي تحتاج إلى إعمال فكر وعقل للتأكد من وجود العلة أو انتفائها في أي مسألة يتراءى للمجتهد أنها تدخل في مجال توجه النص لمعرفة ما إذا كان الحكم ينطبق على موضوع البحث أم لا , وذلك لأن القاعدة الأصولية تقول : الحكم منوط بعلته وجودا وعدما .
هـ – التفريق بين التوقيفي وبين التوافقي : فالتوقيفي من الأحكام هو ما وردت النصوص مطالبة الأمة به وهذا نظل نطالب الأمة به لتقول سمعاً وطاعة لله ولرسوله , أما التوافقي من الأحكام فهي ما لم ترد بها النصوص على سبيل المطالبة بـ ( إفعل ولا تفعل ) بل وردت النصوص بها على سبيل حكاية حال توافقية وهذه لا تعتبر أحكاما شرعية واجبة الانقياد لكونها وردت توافقا وهي تشكل معظم الأحكام الشرعية , وتعاملنا الخاطئ مع هذه الأحكام التوافقية هو الذي كبل المسلمين ومنعهم من تطوير حياتهم لأنه فرض عليهم صياغة حياتهم تماما وفق ما روي عن قالب الحياة قبل أربعة عشر قرنا دون التفريق بين ماهو دين وما هو عادة أو تقليد .
ومن هذا القبيل أغلب الأحكام التي تصيغ شكل الرجل والمرأة وطريقة تعاملهما مع المجتمع وكذلك المعاملات وطرق الحكم والقضاء وغيرها من الأحكام الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي نقلتها الروايات لنا كأسلوب وطريقة في الحياة في عهد السلف من أجدادنا وأصبحت فيما بعد لقصور فهمنا وعدم قدرتنا على تمييز التوافقي من التوقيفي أحكاما شرعية ونصوصا مقدسة لم يستطع المسلمون أن يتحرروا منها حتى في عباداتهم كقولهم بضرورة كون الجمعة أربعين رجلاً أو في بلدة دون القرية أو واحدة كما كانت غير متعددة أو ضرورة أن يحضرها السلطان أو الوالي وإلا فهي باطلة وأمثال ذلك مما في الأساس أحكاما توافقية و ليس هذا محل تفصيلها.
هـ – بناء الفتوى على الأيسر لا على الأحوط : حيث لجأ كثير من المفتين إلى التشدد في الفتوى وكلما دار الحكم بين رأيين اختار المفتي أشدهما احتياطاً وخروجاً من الخلاف على حد زعمه ناسيا أن هذا صحيح وفضيلة في حق النفس وليس في حق الغير فضلاً عن حق الأمة , ففي حق الفتوى والغير والأمة يجب اختيار الأيسر على الأمة والأقرب إلى تحقيق مصالح العباد فقد كان من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ما كان يخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما , ولذلك قعد فقهائنا هذه القاعدة الجميلة الحكيمة لفقههم : ( أينما وجدت مصلحة العباد فثمة شرع الله ).
أثر التجديد الفقهي في السياسة : ويقول الشيخ الشهيد : حيث تحاول الحركات الإسلامية التي تنشط في أجزاء من العالم الإسلامي أن تسوق نفسها لعامة المسلمين على أنهم ورثة الخلافة الإسلامية وبالتالي فهم أولى من غيرهم بقيادة المجتمعات مصورين للعامة أن الخلافة ونظامها إنما هي صيغة سماوية اختارها الله لعباده وتعبدهم بها , وهنا يأتي دور مدارس التجديد التي تضع النقاط على الحروف بكل جرأة حيث تعتبر تجربة الخلافة من أولها إلى آخرها جهدا بشريا عبر عنه أبو بكر رضي الله عنه بقوله { وليت عليكم ولست بخيركم فإن عدلت فأعينوني وإن اعوججت فقوموني أطيعوني ما أطعت الله فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم} .
بمعنى أننا في الإسلام نمتلك منظومة أخلاقية من العدل والمساواة والشورى وإصلاح شؤون الرعية والدفاع عن بيضة المسلمين , ولكن هذا لا يعني أن نصل إلى حد الإدعاء بأن لنا في الإسلام نظاما سياسيا متكاملا تجسد في سياسة النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه في قيادة مجتمعاتهم كما يحلو لبعض الإسلاميين أن يدعيه , ومن يتأمل سيرتهم يعلم أنهم في حياتهم السياسية كما في سائر شؤون حياتهم كانوا ينطلقون من بشريتهم ويبذلون جهدهم للوصول إلى الأقرب إلى تحقيق مصلحة العباد , ولذلك اختلفت تجربة النبي صلى الله عليه وسلم عن تجربة خلفائه في كثير من الجوانب وكذلك تجربة كل خليفة عن تجربة الآخر, فعلى سبيل المثال :
لم يعين النبي صلى الله عليه وسلم خليفته واختير أبو بكر من قبل مجلس شُكل سريعاً من أعيان المدينة لسد الفراغ السياسي وهذه طريقة في اختيار الحاكم .
أما أبوبكر فقد عين عمر بن الخطاب خليفة من بعده وهذه طريقة ثانية .
في حين شكل عمر مجلسا من ستة أشخاص أوكل إليهم مهمة اختيار الخليفة من بينهم خلال ثلاثة أيام من وفاته وهذه طريقة ثالثة .
أما عثمان فقد قتل في فتنة داخلية وحصل بعد مقتله فراغ سياسي دعا الأمة إلى الخروج إلى منزل علي ومبايعته وهذه طريقة رابعة .
وأوصى علي بالخلافة لولده الحسن وهي أول حالة في الإسلام يتم فيها توريث الحكم من الأب إلى الابن وهذه طريقة خامسة .
والحسن بن علي الذي يعتبر خامس الخلفاء الراشدين وآخرهم تنازل عن الحكم لمعاوية بموجب صفقة تمت بينهما نصت على تداول السلطة بين العائلتين الهاشمية والأموية وهذه طريقة سادسة .
فليقل لنا أصحاب الطرح المذكور {الإسلام السياسي } أي من هذه الطرق الستة هي إسلامية والأخرى غير إسلامية .
أظن أن من الواجب أن نعترف أننا لسنا أباطرة نحكم باسم الرب ولكننا من جملة خلق الله وهكذا كان سلفنا رضوان الله تعالى عليهم ويعترينا ما يعتري غيرنا ومن حقنا أن نختار لدنيانا ما يصلح لنا وفق زماننا أو مكاننا أو أحوالنا شريطة عدم تجاوز الخطوط الحمراء في منظومتنا الأخلاقية الإسلامية التي اختارها الله لنا .
وهذا يوصلنا إلى أننا في تيار التجديد لسنا متحمسين لإنشاء حزب إسلامي يقود الحراك السياسي في البلد بل نقف في وجه أي نشاط من هذا القبيل باسم الدين لأن لدينا شعوراً بأن طرح الإسلام كمنافس ليس من مصلحة أحد لأن الجميع في هذا البلد يحترمون الإسلام وينتمون إلى الحضارة الإسلامية بما فيهم أولئك المختلفون عنا إيديولوجيا ولدينا شعور بأن الوطن يتسع للجميع وأن الإسلام أقدس من أن يتخذ وسيلة للمنافسة على دنيا الناس كما قال الإمام الشافعي : { لأن أتكسب بالرقص خير لي من أن أتكسب بالدين } وأكثر من هذا فإن لدينا شعورا بأننا إذا اجتهدنا وتحركنا وقلنا للناس إن هذا جهدنا وثمار طاقاتنا البشرية فإن ذلك يكون أقرب إلى رضى الله وأريح لضمائرنا من أن نقول لهم إن هذا هو حكم الله , وهذا ما علمنا إياه رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان يقول لقادة فتحه : { فإن هم أنزلوك على حكم الله فلا ترضى فإنك لا تدري أتصيب حكم الله أم لا ولكن أنزلهم على حكمك } وبذلك منعنا النبي المعلم صلى الله عليه وسلم من أن نستغل الدين ونجعله درعا لمصالحنا ووسيلة لتحقيق مآربنا.
وبشكل أوضح إننا لا نتحرج من العيش مع أي نظام علماني ديمقراطي يؤمن بفصل الدين عن الدولة إن لم نكن ندعوا نحن إليه وذلك لأمرين اثنين :
إن مؤسساتنا الدينية ومرجعياتنا – نحن أهل السنة -أصبحت خلال ألف وأربعمائة عام جزءاً من الدولة وتأثرت بها بل مرضت بمرضها وماتت بموتها والآن إََذا كانت هناك بقية من هذه المؤسسات فهي والحق يقال أسيرة هذه الحكومات الدكتاتورية التي تسوقها بسياط المخابرات وتنتزع منها الفتاوى على كيفها وتسيرها حسب مصالحها إما رهبةًًًً ًلما مر أو رغبة ً لأن هذه الحكومات هي التي تعين قادة هذه المؤسسات أصلاً وهذه المؤسسات تحتاج إليها في شرعيتها وكذلك في دعمها وتمويلها. وإن فصل هذه المؤسسات عن الدولة يعني تحريرها واستقلالها وتفرغها لمهامها الدعوية والتربوية .
إن الإسلام دين الله وهو أسمى من أن يكون مطية لطاغية أو شماعة لجرائمه كما حصل خلال التاريخ وإننا اليوم بحاجة ماسة إلى أن نضع الحكام أمام مسؤلياتهم وننأى بالدين عن تصرفاتهم لتتمكن الشعوب من محاسبتهم ومحاكمتهم فقد ولى عهد الأباطرة الذين كانوا يخدعون شعوبهم بأنهم يحكمون باسم الله .
التجديد في التصوف : التصوف هو مصطلح مستحدث يطلق على المنهج الإسلامي في التربية والسلوك وهو في الأصل مطلب إسلامي ضروري كالعيادات النفسية والمصحات العقلية والمراكز التربوية المنتشرة في سائر أنحاء العالم بمختلف ثقافاته الشرقية والغربية . ولكنه ولكون تعليماته في الغالب جهدا بشريا وتجربة شخصية لرجال التصوف الذين إن كانوا في بعض الأحيان يلتزمون بالضوابط الشرعية للعلاج والتربية والتزكية إلا أنهم في كثير من الأحايين ما كانوا يلتزمون بتلك الضوابط الأمر الذي أدى إلى انحراف التصوف عن مساره وبدل أن يكون عاملاً إيجابياً في مسيرة الدعوة خصوصا وحياة المسلمين عموما أصبح يشكل عبئاً على الدعوة ومصدر تواكل وانهزامية في حياة المسلمين بل أصبح بيئة مناسبة لنمو الشركيات والبدع التي تأتي من هيمنة الجهلة الذين يرثون زعامة المدارس الصوفية من آبائهم وأجدادهم دون تأهل لذلك , حتى ادعى البعض منهم أنه إله أو حل فيه الإله أو كلمه الإله أو أنه ارتفعت عنه التكاليف أو أنه القطب الذي يدير الكون وإليه يعود مهمة الحل والربط وهو غياث المستغيثين والمتصرف على الإطلاق وهو نور السماوات والأرضين أو أن محبته مقدمة على محبة الله إلى غير ذلك من الخرافات والهرطقات والشطحات التي لا يقبل بها إلا المخدرون من أتباعهم .
ولهذا وحتى لا نخسر منهجنا في التربية والسلوك فإن علينا أن نقوم بتصفيته وننفي عنه تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين ونجدد هذا العلم برفده بدماء ملتزمة بالكتاب والسنة يدفعون عنه كل شرك وبدعة ويفهمون الناس أن الجوانب الباطنية في العقيدة والفقه والسلوك هي دخيلة على التصوف وناتجة من التقليد الأعمى للرجال الذين علينا أن نغربل تراثهم وآرائهم ونأخذ منها الجذوة لا الرماد .
التجديد في دور الإسلام في خدمة الإنسانية : يقول الشهيد الخزنوي : الكثير من المسلمين أصبح يرى الإسلام مجرد طقوس وشعائر متناسياً أن الإسلام في الأساس هو رسالة إنسانية تهدف طقوسه وشعائره إلى تنمية وإحياء روحه الإنسانية تماماً مثلما تهدف إلى تصحيح علاقته بربه الذي عليه أن يعبده وحده لا شريك له , بل على المسلم أن يعلم أننا في مدرسة التجديد نرى كما كان يراه أسلافنا أن حقوق الله على المؤمن مبنية على المسامحة ولكن حقوق العباد مبنية على المشاححة , ولذلك ورد في الحديث هلاك المرأة التي عذبت الهرة ونجاة المومسة التي سقت الكلب في الصحراء ونفي الإيمان عمن لا يأمن جاره بوائقه وعمن بات شبعن وجاره جائع إلى جنبه وهو يعلم وعمن لا يكرم ضيفه وهكذا , الأمر الذي يدعونا إلى استنفار الطاقات العلمية الإسلامية للاهتمام بالشأن الإنساني والاجتماعي والتأكيد على دور المسلم في حماية البيئة والحيوان والإنسان ودراسة الحركات الإسلامية الشكلية العنيفة التي تنسى هذا الجانب وتحول الحياة الدينية إلى طقوس فارغة مكررة مستجرة دون ملاحظة نتائج ذلك على الحياة العملية والعلاقات الإنسانية .
التجديد وا لحوار الإنساني : يقول الشهيد الخزنوي : الذي لا يثق ببضاعته لا يصارح الآخر ولا يرغب في المناخات المفتوحة التي تتم فيها المنافسة بين الجيد والأجود حيث تستقر الأمور لصالح الأجود والأصلح للناس , ولذلك فنحن في مدرسة التجديد فتحنا باب الحوار على مصراعيه بين سائر الأفكار والاتجاهات ولو في أدق القضايا إن شئت قل لثقتنا أن ما نحن عليه هو الأصلح وإن شئت فقل لبحثنا عن الأصلح أين كان لا يهم فالحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها فهو أولى بها , ولذلك أنشط مع دعاة التجديد في كل المحاور المتاحة والتي منها :
1 – حوارالحضارات وحث المسلمين على تجاوز فكرة الصدام والصراع :
إن الأمم التي جمعها بسمارك مؤسس ألمانيا آخر القرن التاسع عشر لتنضوي تحت راية الرايخ الثاني ، لم تكن لتسلم إرادتها إلى أوهام غائبة لا تعود عليها بأمجاد أكثر من أمجادها الأولى، وهو إحساس دفع بالمشاعر الجرمانية إلى التفجر ، حتى دفعت الرايخ الثالث إلى مشاعر نازية متعالية قادها هتلر بعبارته: ألمانيا فوق الجميع، وأطلق صليبه المعقوف نار الحرب في الأرض حتى أشعل العالم، ولكن ألمانيا دفعت ثمناً باهظاً عندما قرأت جانباً واحداً من الصورة ، فالمشهد الذي تراه أنت في تاريخك يقرؤه كل شعب في تاريخه، فالأرض كروية وكل نقطة فيها تصلح مركزاً للعالم ، فالمشاعر التي تحدوك وأنت في دمشق لتحس أنك في مركز الأرض، يحس بها الاسكوتلندي ، والميكرونيزي والموزامبيقي، حتى يمكن القول إن المشاعر النازية قد تكون رصيدا متناثرا بين البشر، ولكن لا يتيسر لها دائما من يحولها من محض مشاعر على مشروع سياسي.
ويمكنني القول إن كثيراً من حركات الإحياء في البلاد العربية والإسلامية تحمل شعوراً نازياً بامتياز ولكنها تعجز عن وضعه وضع التنفيذ، فتقصر أدواتها عن إحيائه وبعثه، ولكن يمكنك أن تقرأه بوضوح فيما يحمله أبناء هذه التيارات من مشاعر عفوية من احتكار الحقيقة، وثقة عمياء بالسيادة التامة على المستقبل، رغم ارتكاس الواقع إلى مستوى اللعنة!!.
إن حديثي الذي كررته في المراكز العلمية في أكثر من مؤتمر يتناول فكرة واحدة وهي حاجة الإنسان للإنسان، وحاجة الغرب المادي للروح الإسلامية، وحاجة الشرق الإسلامي للإنجازات الحضارية الغربية، وهي باختصار مقصود الآية الكريمة: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم، وهو ما كان الجمهور الغربي ينصت إليه باهتمام واحترام .
لقد طرح الغرب مشروع صدام الحضارات، ونادى به متنبئون أشرار من صمويل هانتغتون إلى جيري فالويل إلى بات روبنسون الى فوكوياما، ولكننا هنا في الشرق الإسلامي رفضنا ذلك منذ البداية ودعونا بوضوح إلى حوار الحضارات ويسجل للرئيس الإيراني خاتمي هذا الإنجاز ، فقد أطلقه من فكرة تتداولها مراكز الثقافة إلى مطلب للكتلة الإسلامية في الأمم المتحدة وذلك بوصفه رئيسا آنذاك لمنظمة المؤتمر الإسلامي ، وتم تحقيق نجاح هام حين سمي عام 2001 عام حوار الحضارات استجابة إلى مطلب الرئيس الإيراني والمجموعة الإسلامية.
ولكنني لم أخف في الغرب قراءتي الأخرى لفكرة الحضارة ، فالحضارة إنجاز انساني ويشترك فيها مفكرون من سائر الأعراق من الشعوب ، فلا توجد حضارة تبدأ من الصفر ، بل إنها تؤسس على ما أنجزه السابقون وطوره اللاحقون .
قلت لهم : لقد طفت بمشافي دول غربية كثيرة مثلاً وكنت أجد فيها بصمات ابن سينا وعقاقير الرازي ومباضع ابن زهر تماما كما كنا نجد في مشافينا أيام المجد الإسلامي يد أبقراط وكما تجد في بناء المسجد الأموي هندسة إقليدس ومعادلات فيثاغورس، وحين نتعاطى اليوم مع الموبايل والحاسوب فمن غير الممكن تجاوز دور ابن الهيثم في تصحيح وصفه للمناظر والمرئيات وإرهاصاته المبكرة في اكتشاف سرعة الضوء وهو أهم إنجاز على الإطلاق في عالم الاتصالات، ولا يمكن إدراك الوعي الديمقراطي الذي ينعم به العالم المتقدم من غير تذكر دور حمورابي وجوستنيان وعمر بن عبد العزيز.
إن الحضارة إذن إنجاز إنساني لا يمكن أن ينهض ويتألق ألا عندما ندرك لغة التكامل والتواصل ، وفق القاعدة القرآنية الذهبية : نتقبل عنهم أحسن ما عملوا ونتجاوز عن سيئاتهم .
وهو المعنى الذي عبر عنه الرسول الكريم في إطار رسالات الأنبياء : مثل ومثل النبيين قبلي كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها إلا موضع لبنة فكان الناس إذا مروا بها يقولون ما أحسن هذه الدار لولا موضع هذه اللبنة فكنت أنا تلك اللبنة وأنا خاتم النبيين.
هذه الحضارة الغربية التي تجعل من الكوكب الأرضي قرية صغيرة لا يمكن قراءتها بدءاً من إعلان ماسترخت ولا من اتفاقية فرساي ولا حتى من الثورة الفرنسية ولا من عصر النهضة ولا من شارلمان ولا حتى من مدونة جوستنيان !! كيف يمكن أن ننسى روح القانون التي حررها حمورابي ومطالعة أفلاطون ومناجاة أخناتون؟؟ ربما كان أعظم إنجازات الحضارات إنما هي تلك الإنجازات التي لا يمكنك أن تنسبه إلى فرد بعينه ولا حتى إلى أمة بعينها ، ومن بين أعظم خمس اختراعات عرفتها البشرية لا يمكن لأحد أن يستثني اكتشاف الكتابة واكتشاف النار وكلاهما مقيد باسم مجهول لا يحصره وطن ولا قارة ، ولكنه شريك كامل في الإنجاز الحضاري للإنسان ، أيا كان شكل هذا الإنجاز ولونه.
إنها اللحظة الحاسمة في الصعود الإنساني، اللحظة التي تبدأ فيها الأمة ببناء مستقبلها في عالم لم يعد يجدي فيه شيئاً التقوقع على الذات واختيار العزلة، وندرك فيه أن المقاصد الخيرة للبشرية إنما هي تراث مشترك بين الشرفاء جميعاً في الأرض، وأن المشترك أكثر مما نعتقد، وأن التمييز بين الخير والشر لا يخضع لمنطق الجغرافيا، ولا حتى للميثولوجيا وإنما يخضع للمنطق القرآني الخالد: فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره، وكل نفس بما كسبت رهينة، وإنما تجزون ما كنتم تعملون.
الولاء للوطن : يقول الشهيد الخزنوي : إن أي تجديد في الخطاب الديني لا ينعكس على الوطن والبلد والشعب بكل أطيافه هو تجديد أبتر ولذلك كان من أهم انعكاسات رسالة التجديد على هذا المستوى هي
ترسيخ صفة المواطنة في أذهان أبناء البلد الواحد ومكافحة العرقية والطائفية والمذهبية وغيرها من النظريات الشوفينية التي سادت في النصف الثاني من القرن الماضي وشتت شمل الشعب الواحد ودفع ضريبة ذلك الآلاف من المواطنين الأبرياء الذين لا يقلون وفاء وإخلاصاً ووطنية من غيرهم إن لم يكونوا أكثر منهم , وكذلك السعي إلى رفع سوية الوعي لدى كل شرائح المجتمع الرسمية أو الشعبية لاعتبار المواطنة والإخلاص للوطن وحبه هو المعيار الوحيد للتفاضل بين أبناء البلد الواحد على الأرض كما أن ميزان التفاضل بينهم هو التقوى في السماء ليعيش أبناء البلد الواحد من عرب وكرد وأقليات أخرى .
إن إعادة الاعتبار لمفهوم المواطنة و جعل الانتماء الأساسي و الوحيد هو ( مواطن سوري ) يحل مشكلة الأقليات الدينية و الأقليات القومية ويشد ارتباطهم بوطنهم سورية بوصفه وطناً نهائياً لهم ما دامت حقوقهم وخصوصيتهم الثقافية مصانة في وطنهم الذي لا يسعى إلى تذويبهم في غيرهم بل يعتبرهم مواطنين متساوي الحقوق و الواجبات مع باقي مواطنيهم السوريين.
الاستفادة من العاطفة الدينية والوازع الديني لدى المواطنين في استنهاض الأمة وتطورها ومسابقتها للأمم الأخرى في الإبداع و الإعمار .
إعادة النظر في التشريع السوري وخاصة فيما يتعلق بالاقتصاد والمعاملات والأحوال الشخصية بحيث يكون أقرب إلى روح الإسلام من قربه إلى فهم الفقهاء كما خُطط له سابقا حين كانت المذهبية سائدة وفهم الفقهاء حاكما على روح ومقاصد الشريعة وخاصة فيما يتعلق بالمرأة والقيود التي تقيد حركتها باسم الشرع ,
إن التشريع السوري في مجال الأحوال الشخصية يحتاج لمراجعة حقيقية , فقد مر على اكتمال تدوينه قرابة خمسين عاماً ويمكن القول الآن إن كثيراً من بنوده لم يعد يلبي المصالح العادلة للناس ، وهنا يمكن أن تتأسس المراجعة على أمرين اثنين
أولاً : إن هذا التشريع على الرغم من أنه نتاج جهد صادق لرجال اختصاص ولكنه ليس بالضرورة كلمة الله ! إنه في الواقع مجرد خيار واحد في الفقه الإسلامي إلى جانب خيارات محترمة أخرى
ثانياً : إن حماس المرأة أو المدافعين عنها لإجراء تعديلات في النص التشريعي لا يجوز أن يكون عبثياً بحيث نطالب بتنكيس القائم وإقامة المنكوس ، بل ينبغي أن يتجه إلى المسائل الملحة وفق ترتيب أولويات دقيق ومنطقي
وإني على يقين بأن الفقه الإسلامي غني إلى الحد الذي يمكن فيه تخير الحلول لأشد المسائل تعقيداً ، ولكن المسألة في حسن الاختيار ، والحرية المتاحة للاختيار، وقديماً قالوا : اختيار الرجل قطعة من عقله .
التأكيد على طاعة الله ورسوله من خلال طاعة ولي الأمر فيما ليس بمعصية لله ورسوله ولا يضر بمصلحة الأمة واعتبار هذه الطاعة من ثوابت العقيدة الإسلامية حرصا على وحدة الأمة وأمنها ووحدة صفها , وإفهام المسلم أن من حقه النصح لأولي الأمر ومن حقه الاعتراض بالدليل بل من حقه نقدهم ومناقشتهم ومحاكمتهم وبعد ذلك إسقاطهم بالوسائل القانونية والديمقراطية وكذلك منافستهم في الانتخابات والحلول محلهم إذا حاز على ثقة المواطنين , ولكن ليس من حقه العبث بأمن البلد وسلامته احتجاجا على رأي لا يراه صائبا , وتبليغه أن يد الله مع الجماعة وعليها ومن شذ شذ إلى النار وفي النار وإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية , ولكن شريطة أن لا تتحول هذه الطاعة التي ذكرناها إلى آلة بيد الحاكم يتصرف من خلالها بشؤون الأمة من غير رقيب بحيث يصير الحاكم ذئبا يختار من الشياه ما يشاء.
عناء التجديد : يقول شيخ الشهداء معشوق الخزنوي رحمه الله في أحدى مذكراته : أرجو أن لا تفهموا أنني أقحمكم في عناء أنتم عنه في غنى، ولكن إثارة هذه القضايا ضرورية بتصويب طريقتنا التربوية في التعاطي مع تدريس ظاهرة (البطل) التي هي جزء من ثقافة الأمم ووعيها التاريخي، خاصة في مراحل النهوض واستشراف المستقبل من خلال نجاحات الماضي.
إننا نرسم ملامح التاريخ الاجتماعي للأمة بطريقة طوباوية خيالية بحيث يبدو هؤلاء القادة وكأنما قُدَّت أقدارهم على ما يشتهونه من مقاس، بحيث ولدوا والملائكة تزغرد في السماء وطالع نجومهم يطفئ كل نور غرب، وحين حبا افتر ثغر السماء عن محيا وضاح مبتسم ، وحين مشى هرولت إليه الملائكة وخدمته الحور العين ، وحين بلغ أُذِّن في آفاق الأرض قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً، وحين دعا إلى رسالته بدا كأن القدر يسارع في هواه، وحين ظهر علمه وفضله تخاطفته السلاطين وحملته الناس على أعناقها فلم يطأ الأرض بقدمه، ورحلت إليه القوافل وشدت إليه الرواحل، إلى غير ذلك من الأسطوانات المكرورة التي تسجلها الذاكرة في صحائف كتب التاريخ المختلفة، وتقدم صورة واهمة حالمة للماضي تجعل محاولة إحيائه أو الإفادة منه ضرباً من الخيال المحض.
إن هذه المبالغات الغائمة في ترجمة رجال الكفاح في التاريخ الإسلامي تشكل في الواقع استخفافاً بالعقل الإسلامي والوعي التاريخي، وهو عبث ترتطم به كل محاولات الإحياء التي يتطلع إليها المخلصون في سعيهم ليناء الأمة من جديد على هدي الأسلاف ونجاحاتهم.
من وجهة نظري فنحن لا نخدم بهذه الأوهام رجال التاريخ الذين نحبهم وإنما نشوه تاريخهم ونفقده معنى الصراع البشري والتدافع الإنساني الذي كان يطبع حياتهم.
في القرآن الكريم يمكنك أن تدرك أن تلك المواقف الجارحة التي واجه المشركون بها النبي الكريم على الرغم من قسوتها وشراستها تم تدوينها بكل شفافية في نص الكتاب العزيز، وهي مما يقرؤه المسلم في صلاته كل يوم، حيث تجد في القرآن الكريم ما تحدث به أعداء الرسالة من وصف النبي الكريم : ساحر أو كاهن أو مجنون أو كذاب أشر، أو أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً، وهي اتهامات كانت في الواقع قاسية وجارحة، وما أسهل أن يحذفها النبي الكريم من نص الكتاب لو أراد، ولكنه شاء أن يلقيها في مسامع الناس في تدوين أمين لتاريخ الرسالة، على الرغم من أن هذه الاتهامات لم يعد لها من يدافع عنها أو يتبناها بعد أن دخلت العرب في الإسلام وانضوت قبائلها جميعاً تحت لواء النبي الكريم.
نفسه الواقع الذي عاناه النبي الكريم في جهاده لقيه كل من سلك هديه في تغيير الواقع ويناء المستقبل، والقرآن الكريم طافح بشرح معاناة الأنبياء الذين جاؤوا أقوامهم بالسعادة والخير فكان نصيبهم منهم الجحود والتكذيب والصدود، حتى هلك كثير منهم في مواجهة التعصب والتخلف والرجعية التي اختارت مقولة الجمود والتزمت الشهيرة: إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على أثارهم مقتدون.
على سبيل المثال نتحدث اليوم عن أبي حنيفة كرائد أعظم من رواد الإصلاح في التاريخ الإسلامي ولكن قلما نتذكر ما واجهه هذا الإمام المجدد في تاريخ كفاحه.
حين اختار أبو حنيفة أن يبوئ للعقل مكانته في التشريع، وكتب عن الاستحسان مصدرا شرعياً تاماً، وهو موقف بدا لمعاصريه أنه اجتهاد في سياق النص فإن مشايخ زمانه شنوا حملة عاصفة عليه، نظراً للروح التجديدية التي كانت في فكره واجتهاده، وكان أوضح هذه الانتقادات ما وجهه إليه الإمام الشافعي في كتابه الشهير العاصف (إبطال الاستحسان) وفيه قرر الإمام الشافعي مقولته المشهورة الاستحسان عبث في الدين، ومن استحسن فقد شرع.
وعلى الرغم من أن العلماء فيما بعد اختاروا أن يوفقوا بين منهج الشافعي ومنهج أبي حنيفة إذ ذهبوا إلى أن الخلاف بين الإمامين الجليلين ليس إلا خلافاً لفظياً، أو أن الشافعي لم يفهم مراد أبي حنيفة، إلى غير ذلك من الاعتذارات، ولكن من وجهة نظري فإن هذا الوفاق الشكلي لا يرضي أبا حنيفة ولا يسر الشافعي، وبدون أدنى شك فإن أولى الناس بمعرفة أبي حنيفة هو الإمام الشافعي فهو تلميذ أصحابه، وحديثه في منزلة أبي حنيفة وفضله مشهور متواتر، ولكنه في الواقع اختلاف مدارس، واختلاف مناهج، واختلاف رؤى، وكانت الأمة في صعودها الحضاري تدرك أنه لا ضير في شيء من ذلك .
ولكن ما قاله الشافعي في أبي حنيفة ربما كان أحسن ما قاله ناقد لأبي حنيفة في ذلك الحين وبإمكانك أن تقرأ ما حرره الحافظ البغدادي في تاريخ بغداد لتدرك ما لقيه أبو حنيفة من الجامدين والتقليديين في عصره، فقد أفرد الحافظ البغدادي أكثر من سبعين صفحة ينقل فيها عن العلماء المعاصرين لأبي حنيفة استنكارهم لفقهه وحملهم على منهجه، ومضى بعضهم إلى التجريح والشتم والقدح إلى الحد الذي لا يليق بي نقله في هذا المقام، حتى رأى بعض ناقديه أن مذهبه خليط من المجوسية والغنوصية ورأى آخرون أنه ينقض عرى الإسلام عروة عروة، واتهمه بعضهم بأنه أترك الناس لكتاب الله وسنة نبيه، حتى قال أحدهم لأن يكون في حيكم خمّار خير من أن يكون فيه رجل يفتي بفقه أبي حنيفة!!! وغير ذلك من الأقوال الأمر الذي حمل المحقق محمد زاهد الكوثري على تصنيف كتاب خاص بعنوان: تأنيب الخطيب على ما افتراه في حق أبي حنيفة من الأكاذيب، وفي الواقع فإن الخطيب لم يكن يحتاج إلى تأنيب فهو محض ناقل ولكن الذي يحتاج إلى التأنيب هو التعصب والجمود الذي يلقي بالمخالف دوماً خارج دائرة الأمة والجماعة، ولا يتورع عن استخدام أي صيغة اتهام في سبيل تسفيه رأيه وقمع اجتهاده، ومن الواضح هنا أنني أكبر جهاد أبي حنيفة وحقه في الاختلاف مهما شاء الجمود والتعصب أن يمضي في الإساءة إليه.
إنه من المفيد أن يقرأ طلابنا تاريخ أبي حنيفة كما عاناه هو نفسه، بحلوه ومره، بلسعه وشهده، بنجاحاته وإخفاقاته، بما قاله فيه أولياؤه وأخصامه ، محبوه ومبغضوه، مادحوه وشانئوه، دعونا نتعامل مع الماضي كما كان ونتحدث عن المستقبل كما نحب أن يكون.
المعاناة نفسها نقرؤها في تاريخ ابن رشد الذي أحرقت كتبه، وتتالت عليه المكائد التي ألجأته إلى الفرار وقضت على مستقبله السياسي، وثمة رجال دفعوا بالدم ثمن خياراتهم الفكرية نقرؤهم في سلسلة متواصلة بدءاً من علي بن أبي طالب الذي اتهمه أعداؤه بأنه عدل إلى تحكيم الناس بدلاً من حكم الله، ثم جهم بن صفوان وخالد بن عبد الله القسري، وطيفور بن بسطام والحلاج وابن الفارض وابن عربي وغيرهم كثير ، حتى إن إماماً جليلاً كالطبري شيخ المفسرين لم يسلم من سهام التعصب حتى إن مشايخ عصره من الحشوية كانوا يمنعون الناس من اللقاء به حتى إنه عند موته هاجت العامة ببغداد ومنعوا من دفنه في مقابر المسلمين حتى اضطر أهله لدفنه في الدار، كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية، حتى إن بعضهم رموه بالإلحاد والكفر لمجرد اختلافه عن الجمهور في بعض المسائل، والكأس نفسها ذاقها ابن تيمية الذي أغضبت فتاويه العامة فحاربوه بشتى أنواع الحرب حتى أدخلوه السجن وهناك كتب أهم كتبه، وكان لا يخرج من السجن حتى يعاد إليه، وثمة بيانات وفتاوى متكررة من المشايخ المعاصرين له بكفره وزندقته، يمكنك الاطلاع عليها فيما دوَّنه السبكي على سبيل المثال، حتى إن ابن بطوطة الذي لم يكن في خصامه مع ابن تيمية في عير ولا نفير نقل في رحلته حديث الشارع آنئذ الذي كان يتهم ابن تيمية بالجنون (في عقله شيء)!! ومات ابن تيمية وهو في السجن شهيد الفكر والرأي، ومن المفارقة أن آراءه اليوم يتم تداولها على عكس ما ناضل من أجله إذ تحولت آراؤه نفسها إلى نصوص ينتصر لها أتباعه ويشتدون في قمع مخالفيها بالوسائل ذاتها التي عانى منها ابن تيمية نفسه.
إن قراءة تاريخ التجديد ومعاناة المجددين يكشف لك أن التغيير لا يأتي على محامل الحرير وأطباق الذهب وتفرش له البسط الحمراء وتتلقاه الناس بالتهاني، وإنما هو قدر يركبه رجال التجديد في مواجهة تيارات عاتية من الجمود، من رجال (الحرس القديم) الذين يقولون { إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون} حتى يقضي الله أمراً كان مفعولاً.
الخاتمة : يقول الشهيد الخزنوي : بعد هذا الذي رسمته من معاناة من يسير عكس التيار وأنا بلا شك متصور له قبل أن أرسمه اسمحوا لي أن أقول :إنني أشعر بمرارة لا لأنني لم أكن أتوقع المعاناة التي مررت بها ولاقيتها من أهلي وكل الذين يستفيدون من ثمار التيار التقليدي لكن شعوري بالمرارة ناتج من أنني لم أكن أتوقع ما لاقيته من علية القوم والذين يدعون التقدم والتطور ويدعون أنهم في خندق الإصلاح والتغيير إلى الأفضل في حياة الأفراد والمجتمعات , وإنني حين أعبر عن مرارتي لا أشكو فالشكوى المستمرة منذ عام1989 لم تعط أية ثمار ذلك لأن قضاياي كانت دائما وخاصة تلك التي تتعلق باستنهاض الناس وتوعيتهم وإخراجهم من عبادة العبيد إلى عبادة رب العبيد أقول : إن هذه الشكاوى كانت في الغالب تتلاشى في مهب الريح ضحية مساومات وحسابات لا دخل لأمن البلد ولا لمصلحة العباد فيها .
وهنا سنذكر بعض الامثلة على سبيل التمثيل لا الاحصاء من ممارسات النظام البعثي في محاولتها ازعاج الشيخ
1 – منع الأمن السياسي كتابه ( ومضات في ظلال التوحيد ) وسحبته من الأسواق علما أن الكتاب نال موافقة كل الجهات المعنية على الطباعة وأيضا على التداول , ولعل ذلك جاء خطوة مرتجلة ولحساب بعض الجهات التي يضرها التنوير والتجديد بل وبصراحة لمصلحة محمد الخزنوي الذي هو خط أحمر حسبما نسمع من بعض الجهات الأمنية التي أطلقت يده في منطقتنا بحجة أن له نفوذا لا يستهان به على بعض البسطاء ولو ذهب ضحية ذلك من ذهب المهم أن يظل هؤلاء البسطاء بتوجيه من شيخهم يسبحون بحمدنا , وإلا فالكتاب هو مقتبس من سلسلة كتب العقيدة الإسلامية الستة التي طبعتها وزارة الأوقاف السورية كجزء من منهاج الإعدادي والثانوي .
2- عدم منح الشيخ الشهيد الموافقات على إلقاء المحاضرات في المراكز الثقافية بينما يحصل مشايخ ممن هم يدورون في فلك البعث على موافقاتهم باسرع طريقة وعلى سبيل المقال الدكتور محمد حبش .
3- تهجم بعض الغوغاء من مريدي محمد الخزنوي شيخ الطريقة النقشبندية الخزنوية المنحرفة بالتهجم وضرب الشيخ الشهيد في محراب جامع سلمان الفارسي بحضور الشرطة والدولة ووقفت أجهزة الأمن حليف شيخ الطريقة لأنه يمسك بزمام آلاف الحمير كما عبر عنه أحد مدراء أجهزة الأمن .
لانعطافة الكبرى : من أدبيات حركة الشباب الكورد TCK : في يوم الثاني عشر من اذار 2004 ميلادي كان يوم التحول الكبير في حياة ونضال الشهيد كما كل ابناء شعبه في كوردستان سوريا حينما راى الدماء الكوردية تراق والارواح الكوردية تزهق فقط لانها كوردية وشاهد ذئاب العنصرية تكشر عن انيابها المدماة بكل حقد وعنجهية معادية قيم الاسلام والانسانية فاحس بالواجب الثقيل الملقى على عاتقه لانجاد هؤلاء المظلومين من ابناء جلدته( فالاقربون اولى بالمعروف) و( افضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) ونهجه وقيمه وروحه القومية الوثابة ابت ان يقف ساكتا موقف المتفرج فانخرط في كل النشاطات السياسية الكوردية وحول منزله الى ملتقى لاعضاء السفارات الغربية مع قيادات الحركة الكوردية لشرح قضية الشعب الكوردي العادلة والاضطهاد والحرمان الذين يعاني منهما هذا الشعب الابي على ايدي سلطات خرقت كل القوانين والاعراف الدولية فتعرض لاستجوابات ومضايقات امنية أشهرها يوم في 12/3 /2005 في الذكرى السنوية الاولى لشهداء الانتفاضة المباركة حيث احتجز منعا للمشاركة في حفل التابين الذي اقامه حزب يكيتي الكوردي وبمشاركة حركة الشباب الكوردTCK على مقبرة قدوربك لكنه خرج بمعنويات اعلى وثورية اكبر في نوروز ذلك العام خاطب الجماهير الكوردية على جميع مسارح الفرق الفلوكلورية داعيا الى الوحدة والتكاتف والنضال العملي وداعيا علماء الدين الى شعبهم المقهور والدفاع عنه ورآه واجبا دينيا قبل ان يكون واجبا قوميا وهذا ما كان في كل لقائاته الصحفية والتلفزيونية وبعدها بايام زاار كل معتقلي الانتفاضة الذين اطلق سراحهم والقى كلمات ثناء ونضال ومقاومة في كل خيم التكريم وبشر بغد اكرم.
وفي الذكرى السنوية الاولى لتابين الشهيد فرهاد صبري الذي استشهد تحت التعذيب القى خطبة عصماء اصبحت اشهر من نار على علم قال فيها( لن نسمح اليوم بان تنسوا شهدائكم) (يجب ان نحول الموت الى حياة) ( الحقوق لاتوهب صدقة انما الحقوق تؤخذ بالقوة) كما كان ينبه مرارا بان عصر استعباد الاحرار وسلب وهضم حقوقهم قد ولى دون رجعة وبان هذا الشعب الكبير الذي انجب احمد وغيفارا وادريس ومحمد وفرهاد وسيوان…الخ لا يستحق ان يعيش مكبلا في ذل وهوان.
وفي الليلة السابقة في السابع عشر من نيسان اليوم الذي قررت فيه حركة الشباب الكورد التظاهر والاحتجاج على انتهاك الحقوق الكوردية وعلى عدم محاسبة المجرمين المسئولين عن قتل شبابنا وناهبي ممتلكاتنا في الحسكة وراس العين طلب من هيئة المتابعة والتنسيق في الحركة تاجيل التظاهرة وهذا ما فعلته اكراما له على شرط اقامتها في وقت قريب مع بعض اطراف الحركة وبقي على وعده واكد لهم انه معهم قلبا وقالبا وان النضال العملي فقط يثمر عن استرجاع الحقوق وانه سيشاركهم مسيرتهم المقررة في 12 ايار 2005 ميلادي ان هو انهى اشغاله في دمشق وعاد الى قامشلو.
لكن عصابات الاجرام اختطفته في العاشر من ايار وانقطعت اخباره كان ذلك محل تنديد واستنكار الجماهير الكورديةالتي خرجت في 21 ايار في قامشلو بناء على دعوة بعض الاحزاب الكوردية وحركة الشباب الكورد للمطالبة بالكشف عن مصيره لكن السلطات لم تابه لها.
وفي الثلاثين من الشهر نفسه خرج اكثر من 1000 شخص في دمشق للدعوة نفسها من كافة الاحزاب والمنظمات الكوردية والعربية في سوريا لكن السلطات واجهتها بالعنف والهمجية لينتشر خبر استشهاده بين الجماهير الكوردية كالنار في الهشيم في الاول من حزيران وخلال ساعات محدودة تجمع اكثر من نصف مليون كوردي في مدخل قامشلو حتى دوار زوري في انتفاضة ثانية و حملوا الجنازة الشريفة في لجة غضب عارم الى مسجده ثم الى مقبرة قدوربك ليوارى الثرى جسده الطاهر الذي كان قد تعرض للضرب والتعذيب دون ان تقهر ارادة روحه الصلبة المشبعة بالايمان وظلت خيمة العزاء مفتوحة امام المعزين ثلاثة ايام وتحولت الى منبر للتنديد والاستناكر بالجريمة وعهدا بالوفاء للشيخ الشهيد وقيمه الكريمة من قبل عشرات الالاف من الكورد الذين كانوا يؤمونها يوميا.
وفي الخامس من حزيران قرر حزبا يكيتي وازادي القيام بمظاهرة سلمية احتجاجا على اختطافه واغتياله والدعوة لكشف الجناة الحقيقيين والتحقيق النزيه في القضية وتجاوب معها بعض المنظمات الكوردية المستقلة واكثر من خمسين الف شخص وكانت سلمية وحضارية الا ان السلطات لجات الى اطلاق النار والضرب والاعتقال وسلب ممتلكات الكورد ومحلاتهم في سوق قامشلو التي طوقتها القوى الامنية وقامت باعتقال اكثر من خمسين شابا اودعتهم السجن لمدة شهرين وقبلهم كانت قد اعتقلت اثني عشر شابا واطلقت سراحهم بكفالة وما زالت تصر على استئناف محاكمتهم حتى اليوم وفي ذكرى اربعينيته اقام مكتب شيخ الشهداء حفل تأبينيا لائق بحضور احزاب يكيتي وازادي والوفاق وpyd وايضا تيار المستقبل وحركة الشباب الكورد وبعض الكتاب والشعراء الكورد وقدم شريطا توثيقيا حول حياة الفقيد ونضاله.
اهميته ودوره: من ادبيات حركة الشباب الكورد TCK : برزت أهمية شيخ الشهداء ودوره في :
1- انه اراد ان يتمم رسالة الانتفاضة الكوردية وان يسدل الستار على عهود الانحطاط والتخاذل والتخفي.
2- سعيه لبناء مرحلة جديدة في تاريخ النضال الكوردي في كوردستان سوريا ومحاولته اعادة دور علماء الدين في ذلك الكفاح العادل اسوة بالشيخ عبيد الله النهري وعبد السلام البارزاني ومحمود الحفيد وسعيد بيران وغيرهم .
3- تجاوب الشارع الكوردي معه بشكل هائل وسريع وثقته في شخصه التي لا يرقى الشك اليها.
4- شجاعته الفريدة و ادراكه التام للنفسية الاجتماعية للشعب الكوردي في سوريا وطرقه لابواب العالم المعاصر وفي زمن مناسب ودقيق وحساس .
خطواته الناجعة تلك كانت ايذانا ببدء العد التنازلي لحياة رجل أصبح من مجددي القرن الحالي وتم توجيه عدة إنذارات له الا
انه لم يكن يلتفت الى التهديدات وكانه يقول ما قاله الامام علي ( الخوف لا يرهب غير القلب الفاسد )وقد ترك الشيخ الشهيد مدرسة نضالية لا تعرف الهوادة من اجل حقوقها القومية المشروعة في صفوف الشباب الكوردي يتقدمه ابناؤه المناضلون محمد مرشد ومراد واضعين مصلحة الشعب وقضيته فوق كل المصالح والاعتبارات الاخرى ومنطلقين من مبدأه القائل الحقوق لا توهب صدقة بل تؤخذ بالقوة سائرين على نهجه المنبثق من الايمان القوي بعدالة وأحقية القضية الكوردية وبانتصار الحق والعدل في النهاية مهما قويت شوكة الظالمين والحاقدين.