بعد عناد طويل منها, وانتظار اطول من حلفائها دخلت تركيا الحرب, دون ان يطلق جنودها رصاصة واحدة على المتطرفين الدواعش ,رغم انه لم يفصل بينهما سوى مئات الأمتار ,وإنما قاموا بالمقابل بتكثيف الغارات على مواقع حزب العمال الكوردستاني في قنديل ودهوك بكوردستان العراق ,أسفرت عنها مئات القتلى والجرحى ,تزامناً مع ضرباتها لبعض مراكز وحدات حماية الشعب التي تقاتل داعش عند اطراف بلدة جرابلس الكوردية السورية الواقعة بين نهر الفرات شرقاً وعفرين غرباً,لتطهيرها من الارهابيين ,والتي تعتبر تركيا تحريرها خط أحمر لا يمكن القبول به ,حيث باتت ترى نفسها بعد سقوط مدينة تل أبيض بأيدي القوات الكوردية ,أمام أقليم كوردي على حدودها الجنوبية تمتد من الجزيرة الى عفرين ليصبح أقليماً جغرافيأً مكتملاً .
.
وما يزيد مخاوفها أكثر أن حزب العمال هو من يقف مع القفزة النوعية للكورد في سوريا ,ما يهدد أمنها القومي ويسبب مستقبلاً فوضى في داخل أراضيها, بصحوة واستيقاظ اكرادها ,خاصة وهي تسير باتجاه إجراء انتخابات تشريعية مبكرة ,لتعويض ما خسره حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التي جرت في السابع من يونيو حزيران من العام الحالي ,وتمكينه من الحصول على الاغلبية النيابية التي يحتاجها لتغيير النظام السياسي التركي من البرلماني الى الرئاسي ,ولأجل ذلك فتح القضاء الذي يحمي أردوغان ونظامه القائم منذ حوالي ثلاثة عشرة عاماً باب التحقيق مع زعيمي حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين دمرتاش وفيجين يوكسيك داغ ,بتهمة الترويج لمنظمة ارهابية ,للإنتقام منهما بصفتهما رئيسين مشتركين للحزب الذي كان وراء تدهور شعبية حزب العدالة والتنمية الاسلامي الحاكم ,وبالذات في جنوب شرق تركيا ذات الأغلبية الكوردية على أن يكون الباب مفتوحاً لأحتمالية حله .
.
يبدوا أن أمل أردوغان الوحيد أن يصبح رمزاً يقدى به شأنه شأن مؤسس الدولة التركية مصطفى كمال أتاتورك , ومؤسس الدولة العثمانية عثمان شاه ,بطريقة أكثر تحديثاً وعصرنة ,وأن تبديد آماله وطموحاته الشخصية هذه دفعاه الى الانضمام لنادي التحالف الدولي بحجة حماية تركيا من الارهاب ,بوضع قاعدة الانجرليك تحت الخدمة مقابل إقرار أمريكي بإقامة منطقة آمنة أو عازلة على الحدود السورية ,وهذا الاتفاق الغامض لم يكن وليد اللحظة بقدر ما كان نتيجة مفاوضات طويلة مارست واشنطن خلالها المزيد من الضغط على أنقرة ,وبهذه الخطوة الوخيمة وغير محسوبة العواقب عادت تركيا من جديد الى الفصل الدموي بعد سنين من الهدوء المرفق باطلاق عملية السلام الداخلي بين حزب العمال الكوردستاني والحكومة التركية ,وتداعياتها على القضايا الساخنة والمتفجرة في المنطقة خاصة الأزمتين السورية والعراقية حفاظاً لمكانتها ونفوذها الاقليمي والدولي وتحالفها التاريخي مع واشنطن وعضويتها في حلف الشمال الاطلسي لتكون جزءاً من المنظومة الأمنية لتحالفات جديدة ناتجة عن التحركات الدبلوماسية لصالح حل سياسي خاصة للأزمة السورية .
.
رغم اختلاف الرؤيتين الأمريكية والتركية حول نقطتين مهمتين تكمنان في القضاء على الارهاب أو ترحيل الأسد ونظامه لكن تركيا وجدت نفسها مضطرة لمحاربة خطر داعش تحت يافطة القضاء على الارهاب ,درءاً للشبهات والاتهامات الموجهة لها بدعمها اللامحدود له وفي جميع الميادين بدءاً من تجميع عناصره وتدريبهم وتجهيزهم وتأمين المعدات الضرورية اللازمة لهم استعداداً لأجتيازهم الحدود لتمكينهم من محاربة الكورد لوقف التمدد الكوردي الواسع وسريع الانتشارفي الشمال السوري ,وتفادياً لأنتقال عدوى الارهاب الى داخل اراضيها ,مستغلاً في الوقت نفسه حاجة الويلايات المتحدة لقواعدها العسكرية لضرب داعش والعناصر الارهابية لقربها من معاقلهم بدلاً من انطلاق طائراتها الحربية من قاعدتها العسكرية في الدوحة ,وأن تفجير سروج واتهامها للكوردستاني بقتل شرطي لها على الحدود مع سورية لم يكن سوى عملية مفبركة من جانبها لمحاربة حزب العمال لتساوي بينه وبين داعش لتعطي لنفسها حق الرد دفاعاً عن نفسها بموجب القانون الدولي حفاظاً على سلم واستقرار تركيا.
.
وثمة دافع آخر تكمن في العلاقة الاستراتيجية القوية والمتينة التي تربط الكورد بأمريكا من وقع الحرب على داعش يتعلق بمستقبل الكورد في العراق وسورية والسير معاً باتجاه تشكيل دولة كوردستان تمتد من الحدود الايرانية الى ساحل بحر الأبيض المتوسط , تكون بديلة لها على المدى البعيد ,نابعة عن تفسيرات واستنتاجات المحللين من تصرحات المسؤولين في الإدارة الامريكية “أن الكورد هم شركاء حقيقيون لأمريكا على الارض في حربها على الارهاب ” ما يعكس سلباً على تماسكها الجغرافي ووحدة أراضيها بدفع سكانها في الجزء الكوردي الملحق بها الى المطالبة بكيان سياسي خاص بهم على غرار أخوتهم في العراق وسورية, فبقدر ما هو حق طبيعي ومشروع للكورد شأنهم شأن غيرهم من شعوب العالم ,يشكل بالنسبة لتركيا هاجساً صعباً ومخيفاً لا بد من محاربته بكل الطرق والوسائل المتاحة .
.
فهذا يدل على ان حزب العدالة والتنمية ليس لديها آية نية لحل القضية الكوردية في تركيا بالحوار السياسي السلمي الذي توقعه غالبية الشعب الكوردي في الاجزاء الاربعة ,وإنه كان يراوغ ويخادع الجميع طيلة الفترة الماضية من أجل خلق شعبية له في الداخل التركي لكسب اصوات الناخبين ,والحصول على مكاسب وامتيازات أكثر وضمان البقاء في الحكم لفترة اطول ,ويظهر جلياً نوايا السيد رجب طيب اردوغان المصاب بهستريا العظمة حتى ولو كلف ذلك حياة شعوب تركيا خاصة وهو يعلم بأن الحرب والقتال لا ولن يحلا مشكلة ,بل تحل مجمل المشاكل والقضايا عن طريق الحوار والتفاوض الجدي على اسس ومعايير وقيم اخلاقية حضارية وقانونية,وعلاقات انسانية نبيلة ,وأن الحروب لا تجلب سوى المصائب والويلات والدمار ,لذا فالأفضل لتركيا والكوردستاني العودة الى المفاوضات من جديد بشكل علني وبرعاية دولية والسير قدماً في مسيرة سلام حقيقية عبر تفاهمات جديدة لحل القضية الكوردية بالرضا بعيداً عن العنف .
.
صبري حاجي