كوردستريت|| #آراء وقضايا
بقلم فؤاد عليكو
لا يختلف اثنان على أنّ تأسيس حزب الله عام ١٩٨٣ جاء بعد اجتياح إسرائيل لبيروت عام ١٩٨٢ وطرد المقاومة الفلسطينية منها، في الوقت الذي كانت الحرب العراقية/الإيرانية في ذروتها، وكان هناك تخادم غير معلن بين إسرائيل وإيران في تزويد إسرائيل لإيران بالأسلحة التي كانت تحتاجها إيران، وخاصةً قطع الطائرات الأمريكية التي كانت تملكها إيران، والتي عُرفت فيما بعد بفضيحة (إيران غيت ١٩٨٥).
وكان الهدف من تأسيس حزب الله، من قبل إيران، تحقيق عاملين أساسيين: الأول: جاء هذا التأسيس تنفيذاً لتوجه ملالي إيران بأنّ ثورتهم عام ١٩٧٩ ثورة إسلامية، وليست إيرانية فقط، وأنها ثورة المستضعفين، وكان يقصد بها المسلمين الشيعة في العالم بالدرجة الأولى، وكان حزب الله في لبنان باكورة هذا التوجه السياسي لدى قادة إيران. ثم تلا ذلك العمل في دول أخرى، مثل العراق وسوريا واليمن ودول الخليج. الثاني: السيطرة العسكرية على الجنوب اللبناني منعاً لأي تسلل للمقاومة الفلسطينية للقيام بعمليات عسكرية داخل إسرائيل من الجنوب اللبناني خدمةً لإسرائيل، مقابل دعمها لإيران بالسلاح.
وقد عبّر عن ذلك الأمين العام السابق صبحي الطفيلي صراحةً حين قال: “بأننا وجدنا أنفسنا حراساً لإسرائيل دون أن ندري وتحت اسم المقاومة للعدو الإسرائيلي”. ثم استقال بعدها، ولا يزال معارضاً شرساً لسياسة إيران في لبنان وسوريا باستخدام حزب الله. ثم تسلّم المهمة بعده حسن نصرالله، الذي كان مدركاً للعبة التخادم بين إيران وإسرائيل، وأتقن دوره بجدارة، وأعلنه صراحةً فيما بعد، بأنه يتبع ولاية الفقيه المرشد الأعلى علي خامنئي وملتزم بتعليماته. وهكذا، تضخّم دور حزب الله تدريجياً من خلال الدعم اللامحدود من قبل إيران مادياً وعسكرياً، حتى أصبح القوة العسكرية الوحيدة في لبنان، خاصةً بعد اتفاق الطائف بين اللبنانيين عام ١٩٨٩، والذي قضى بنزع سلاح الميليشيات اللبنانية جميعها باستثناء سلاح حزب الله. ثم اكتسب حزب الله شعبية عربية ولبنانية من خلال حرب مزيفة مع إسرائيل عام ٢٠٠٦، وبعد ذلك سيطر على الوضع اللبناني السياسي بعد إرهابه لبيروت عام ٢٠٠٧.
ثم جاء انتخاب أوباما لرئاسة أمريكا عام ٢٠٠٨ وفتحه قنوات التواصل مع إيران، وأرْخَى الحبل لها في التمدد في الشرق الأوسط مقابل الحد من البرنامج النووي الإيراني. واستغلّت إيران هذا الوضع بذكاء في التمدد لدرجة إعلانهم صراحةً بعد عدة سنوات بأنهم يسيطرون على قرار أربع عواصم عربية (بيروت، دمشق، بغداد، صنعاء) من خلال أذرعها القوية في تلك الدول.
كما قدّمت دعمها العسكري لحركة حماس الإخوانية التي سيطرت على قطاع غزة بانقلاب عسكري على السلطة الفلسطينية عام ٢٠٠٧، وبدأت ترسل برسائل قوية إلى إسرائيل مفادها بأنّ مفاتيح المنطقة بيدها، بما فيه أمن إسرائيل، لذلك على إسرائيل أن تتصرّف وفق معادلة جديدة في الشرق الأوسط، وذلك بعدم تجاهل دورها ومصالحها في تعاملها مع دول المنطقة. لكنّ إسرائيل لم يَرُق لها هذا التوجه الإيراني الجديد، واعتبرته تهديداً مبطناً لدورها وأمنها في المنطقة، وخضوعاً لإيران، والبقاء تحت رحمة سياساتها، واعتبر ذلك خرقاً فادحاً لمقولة التخادم المشار إليها سابقاً. فاتجهت إلى دول الخليج، خاصةً الإمارات والسعودية، لبناء علاقات طبيعية معها، والتفكير بحلّ الدولتين وفق الرؤية السعودية وبتشجيع قوي من الإدارة الأمريكية الحالية.
وقطعت الحوارات شوطاً كبيراً في هذا المجال، خاصةً في المجال الدبلوماسي والاقتصادي، واعترفت الإمارات والبحرين بدولة إسرائيل ولم يبقَ إلا السعودية التي كانت المفاوضات تسير بخط تصاعدي، بالتوازي مع الملفات الاقتصادية والمشاريع الضخمة بين هذه الأطراف، خاصةً خط النفط الإماراتي السعودي وربطها بميناء حيفا الإسرائيلي.
وهذا ما أثار حفيظة إيران، فلجأت إلى خلط الأوراق واستخدام ورقة حركة حماس من أجل ذلك ، على أمل إحراج الدول العربية، فيما لو تجدّد الصراع بين إسرائيل والفلسطينيين واستبعاد التفاهمات التي تحصل بين الطرفين.
فكانت عملية حماس الكبيرة في ٧ تشرين الأول ٢٠٢٣ واختراق غلاف غزة وقتل المئات من الإسرائيليين وأسر المئات أيضًاً، ثم أعقب ذلك في اليوم التالي إعلان حزب الله المشاركة في الحرب. كلّ ذلك على أمل أن ترضخ إسرائيل للتفاهم مع إيران والابتعاد عن المحور الخليجي، لكنّ حساب الحقل لم يطابق حساب البيدر، حيث شعرت إسرائيل بأنها أمام خطر وجودي حقيقي كدولة إسرائيلية، وأنها بحاجة إلى استعادة هيبتها وثقة شعبها بجيشها الذي لا يُقهَر والذي فقدته في عملية حماس، وأنّ التفاهم مع إيران لا يمكن أن يحقّق هذا الغرض، بل يضع أمنها تحت رحمة إيران واستراتيجيتها في المنطقة، وهذا ما لا يمكن القبول به مهما كانت النتائج. كما أنّ إسرائيل تلقّت دعماً ومساعدة قوية من المجتمع الدولي، خاصة أوروبا وأمريكا بالدرجة الأولى، والتي استقدمت قوات ضخمة للمنطقة، والإعلان صراحةً بالحفاظ على أمن إسرائيل وتهديد إيران مباشرة، إذا ما واصلت دعمها للفصائل الموالية لها في المنطقة. كما أنّ الدول العربية أدركت اللعبة والهدف الإيراني ورفضت الوقوع في شباكها.
حينها أدركت إيران فشل مخططها، وأنّ فوهات المدافع الأمريكية سوف تتوجّه إليها مباشرةً ؛ لذلك بدأت بتخفيض منسوب خطابها التحريضي، وتنصّلت من دفعها لحماس للقيام بهذه العملية، كما ضغطت على حزب الله ، في عدم التصعيد مع إسرائيل ،مهما كانت الضربات التي يتلقاها. وهكذا، أصبح حزب الله في مأزق حقيقي؛ فهو من أعلن الحرب بتوجيهٍ من إيران، وهو الآن يريد وقف الحرب وبتوجيه إيران أيضاً، لكن إسرائيل لا ولن تستجيب لتوسلاته، وسوف تستمرّ بتدمير ترسانته العسكرية، والقضاء على كوادره، حتى وإن حصل اتفاق مرحلي مع حماس ؛ لأنها مضطرة للتعامل مع الموضوع عسكرياً لطمأنة شعبها، الساكنين في المنطقة الشمالية من إسرائيل، وإعادتهم إلى قراهم باطمئنان، وهذا لن يتحقّق طالما حزب الله يمتلك هذه الترسانة العسكرية الضخمة على حدودها. الخلاصة أنّ المنطقة تتجه نحو التصعيد، وأنّ الكثير من المعادلات التي كانت مستقرة في المنطقة لعقود ستنهار تدريجياً ، حتى وإن لم تحصل حروب كبيرة، والتي لا أستبعدها أيضاً.