
كوردستريت|| آراء وقضايا
بقلم عبدالرحمن كلو
عندما تأسس المجلس الوطني الكوردي عام 2011، انبثق ككيان معارض للنظام السوري (رغم ملابسات تأسيسه ومواقف صقوره الحاليين من النظام، وهو موضوع سنفصله لاحقاً )، لكنه وُلد في خضمّ الحراك الثوري السوري، حاملاً هدفاً رئيسياً يتمثل في نَيل الحقوق القومية المشروعة للشعب الكوردي، ثم تبنّى لاحقاً شعار إسقاط النظام تماشياً مع المعارضة العربية. ومن ثم إنضم باكراً إلى الائتلاف السوري المعارض، وأنشأ هياكل ولجاناً للتنسيق، مُستجيباً لضرورات المرحلة السياسية آنذاك.
اليوم، وبعد سقوط النظام، لم يعد ذلك الواقع قائماً. فالائتلاف الذي كان يمثل المظلة الرئيسية للمعارضة حَلَّ نفسه بعد السقوط، معتبراً مهمته منتهية، بينما اندمجت فصائله العسكرية في مؤسسات الجيش السوري الجديد. هنا يبرز سؤالٌ جوهري: لماذا يستمر المجلس الوطني الكوردي كإطار سياسي رغم زوال الظروف التي أوجدته، وتغيُّر أهدافه، وإعادة تشكيل الخارطة السياسية السورية برمّتها؟
إن تمسُّك البعض ببقاء المجلس لأسباب امتيازية أو مالية، ورفضهم أي مراجعة جادة، يُحوِّل وجوده إلى غايةٍ بذاتها، لا وسيلةً لتحقيق تطلعات الشعب. وإذا كان الحلّ الذاتي غير مطروح، فالمطلوب:
إعادة هيكلة مهامه ولجانه لتتلاءم مع المتغيرات السورية، ضماناً لاستمراره ككيانٍ فاعلٍ ذي جدوى.
يواجه المجلس اليوم ضرورة تاريخية لإعادة تعريف ذاته عبر مشروعٍ سياسي توثيقي ممنهج، يُجسِّد تحولاً جذرياً في أدائه، عبر صياغة “مشروع قومي كوردي” مكتوب، يحدد هويته السياسية ووظائفه المؤسساتية، بعيداً عن الارتجال والخطابات الحزبية الشعاراتية. يجب أن تكون هذه الوثيقة إطاراً جامعاً يربط المطالب الكوردية بالمشروع الوطني السوري، معترفاً بالتحولات الجيوسياسية، ومُعيداً ترتيب أولوياته لبناء شرعيةٍ قائمة على الفعل الاستباقي، لا ردود الأفعال.
كما يتطلب الخروج من تحت عباءة “السياسة الارتجالية” التي يمارسها “أنصاف الأميين” على شكل سرديات قصصية وحوّلوا القضية الكوردية إلى ورقةٍ مُتاجَر بها في بورصة إستانبول، بدل أن تظل مشروعاً تحررياً وطنياً. آن الأوان لتحوُّل الخطاب من التذرع بـ” ضرورات صداقة تركيا” إلى خطابٍ مؤسساتي عقلاني، يشارك في صياغة سوريا الجديدة في محيطها العربي بدلًا من تركيا دون التنازل عن الحقوق المشروعة للشعب الكوردي، لكن بوعيٍ دقيق للتوازنات الإقليمية والدولية.
هذا التحول لن يتحقق إلا عبر مؤتمر استثنائي يُناقش الأخطاء البنيوية، ويعيد هيكلة الإطار التنظيمي، ويُحدِّد الموقف من الملفات المصيرية، وعلى رأسها ملفات مناطق الإحتلال التركي وبالأخص ملف عفرين (الذي يستحق مؤتمراً خاصاً)، مع محاسبة كل مَن تعاون مع المحتل التركي وأساء للقضية الكوردية.
ونذكر بأن التحولات الجذرية التي شهدتها سوريا منذ سقوط النظام أعادت تشكيل الخارطة الجيوسياسية للمنطقة برمتها، بل واجتاحت تيارات التغيير الجارفَة البنى السياسية السورية التقليدية، لتُرسي واقعًا جديدًا تتهاوى أمامه الخطاب التقليدي الترتيب. وفي خضم هذا المشهد، يبدو ان المجلس الكوردي عاجز عن مسايرة ديناميات التحوّل كإشكالية جوهرية تهدد ذاتية وجوده ، فإذا كان مصرًا على ممانعة مراجعة الذات ويُصِرّ على تبني سردية مقولاته القصصية ، فإن قوانين الواقع ستفرض نفسها حتمًا، إذ لا مكان في معادلات المرحلة الراهنة لمنظومات وأطر وسياسية تجمدت وتصرّ على العيش خارج إطار الزمن.
وبأي حال من الاحوال لا يُمكن اختزال القضية الكوردية السورية في هيكل تنظيمي واحد تآكلت شرعيته بعد أكثر من عقد من الإخفاقات المتتالية، فالقضية ليست ماركة مسجلة بإسمه، كما أن الإرث التراكمي للمجلس -المثقل بالتناقضات والانكفاء على المكاسب الحزبية الضيقة- أفقده الأهلية لتمثيل طموحات الشعب الكوردي بمُركّباتها التاريخية والثقافية. بل إن استمراريته الاعتبارية تبدو رهناً بدعم خارجي هشٍ، فلو سُحب عنه غطاء الدعم المالي من الإقليم، لانهار كتمثال طيني لا يحمل من القوة إلا وهْمَ المظهر.
الأمر الأكثر خطورة يتمثل في انزياح المجلس عن الفعل السياسي الحقيقي ليتحول إلى نسخة باهتة من “الدكاكين الحزبية”، حيث طغت سلوكيات تقاسم المغانم والمناصب والموارد على حساب المبادئ الاستراتيجية، مما عزّز القناعة الشعبية بانزياحه عن هموم الناس اليومية. ولا غرو أن الرأي العام الكوردي بات ينظر إلى أي دعم تركي مُوجه للمجلس بريبة شديدة، إذ لا شرعية لمشروع يرتهن لإرادة خارجية تتعارض مع الثوابت القومية الكوردية.
في ظل هذا الفراغ القيادي، يصبح من المشروع -بل من الضروري- فتح الباب أمام القوى السياسية الجديدة لخوض غمار العمل العام وفق رؤى متجددة، سعيًا لبناء كتلة سياسية جامعة قادرة على توحيد الصفوف وصياغة خطاب سياسي يعكس إرادة الشعب الكوردي، بعيدًا عن الاستقطابات العصبوية وإملاءات الخارج. فالحقبة الراهنة تتطلب مقارباتٍ تتجاوز منطق الاحتكار إلى فضاء التعددية الخلّاقة، حيث تكون الأولوية للكفاءة لا للانتماءات للهياكل، وللمشروع لا للشخصنة.
أما إذا أصرَّ المجلس على التمترس خلف مواقف فريق إستانبول خائفا من سقوط حصته في كعكة التقاسم، رافضاً إعادة تعريف دوره أو تغيير استراتيجيته، فذلك يعني أنه بلغ مرحلة “انتهاء الصلاحية”. المسألة لم تعد ترفاً فكرياً، بل خياراً مصيرياً بين إعادة التموضع أو التحول إلى كيانٍ متحجِّرٍ بلا شرعية. فهل يمتلك الشرفاء في المجلس شجاعة الاعتراف بالواقع الجديد وتجاوز سياسة المواقف المختطفة، أم سيختارون الموت السريري إلى أن يُسدل الواقع ستاره الأخير؟