صالح قلاب / لم يكن مستغربا ولا مفاجئا أن تبادر تركيا، وإن بطريقة ناعمة حتى الآن، إلى رفض توجهات الزعيم الكردي مسعود بارزاني لإعلان الاستقلال عن الحكومة المركزية في بغداد، فالأتراك لا يهتمون في حقيقة الأمر لا بسلامة الأراضي العراقية ولا بوحدة العراق السياسية، كما يقولون، وإنما بوحدة دولتهم التي يرون أنها ستصبح مهددة بانتقال عدوى النزعة الاستقلالية إليها نظرا لوجود نحو 20 مليون كردي فيها بقوا دائما وأبدا يكافحون وبكل الوسائل لنيل استقلالهم وإقامة دولتهم القومية المنشودة.
وهنا فإن المؤكد أن تركيا، خلافا للتصريحات التي أدلى بها الناطق باسم حزب العدالة والتنمية الحاكم حسين جيليك لصحيفة الـ«فاينانشيال تايمز» البريطانية، ترفض أي تقسيم لهذه الدولة المحاددة والمجاورة لأنها تخشى انتقال عدوى التفتت والتشظي إليها نظرا لأن أكرادها الثائرين حاليا يشكلون الأكثرية الكردية في المنطقة كلها ونظرا لأن هناك أقلية عربية لا تزال ترى أن إلحاق لواء الإسكندرون في عام 1939 بالدولة التركية هو مؤامرة ظالمة جاءت في ظل ضعف العرب وتشرذمهم وفي لحظة تاريخية مشؤومة!
صحيح أن لتركيا في إقليم كردستان – العراق مصالح اقتصادية هائلة، نفطية وغير نفطية، وصحيح أيضا أن مسعود بارزاني يرى الآن، أن الأولوية في هذه المرحلة هي لإقامة الدولة الكردية المستقلة في هذا الإقليم وحده ودون أي استفزاز لا للأتراك ولا للإيرانيين وذلك حتى لا تتكالب عليه وعلى تطلعاته هذه الأمم فتصبح نهاية أحلامه القومية كأحلام والده الملا مصطفى بارزاني الذي هو بطل إقامة «جمهورية مهاباد» عام 1946 التي لم تعش إلا أحد عشر شهرا والتي انتهت بصفقة غادرة بين الشاه محمد رضا بهلوي والاتحاد السوفياتي وبريطانيا العظمى والولايات المتحدة.
لكن الصحيح أيضا أنه لا تستطيع لا هذه الحكومة التركية، أي حكومة حزب العدالة والتنمية، ولا أي حكومة بديلة أخرى، أن توافق أو تدعم أو تسكت عن إقامة دولة كردية في إقليم كردستان – العراق والمسألة هنا لا علاقة لها بالأقلية التركمانية التي يقال إنها تشكل الأكثرية السكانية في مدينة كركوك بل في أن هناك نحو عشرين مليون كردي في تركيا وأن هناك حربا محتدمة بقيادة حزب العمال الكردستاني – التركي أسفرت حتى الآن عن مقتل نحو أربعين ألفا من الأتراك وهي، أي هذه الحرب، لا تزال مفتوحة على شتى الاحتمالات.. وأيضا في أن هناك جيشا رغم تراجع دوره في ظل حكم رجب طيب إردوغان إلا أنه لا يزال يعتبر نفسه الحارس الذي لا تغمض عينه للوحدة الوطنية التركية.
إن هذا يعرفه أكراد كردستان – العراق ويعرفه بالتأكيد مسعود بارزاني الذي بحكم تجاربه «المريرة» وتجارب والده وتجارب عائلته يعرف أن لـ«الأمم» ألاعيب مكلفة وأن ألاعيب الأمم هي التي حرمت الكرد من أن تكون لهم دولتهم القومية أو دولهم الوطنية كباقي شعوب هذه المنطقة الشرق أوسطية، وأن هذه الألاعيب لا تزال مستمرة وأنه يجب عدم الوثوق لا بالولايات المتحدة ولا برئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان وبالطبع ولا بالولي الفقيه الذي له في العراق مندوب ساميّ هو قائد فيلق القدس الجنرال قاسم سليماني.
إن من حق الشعب الكردي أن تكون له دولته القومية أو دوله الوطنية في كل امتدادات وطنه التاريخي إنْ في العراق وإنْ في تركيا وإنْ في إيران.. وأيضا إنْ في سوريا، فهذه مسألة يجب أن تكون محسومة وخصوصا بالنسبة للعرب الذين هم ضحية اتفاقيات «سايكس – بيكو» والذين تربطهم بهذا الشعب الشقيق علاقات مشرفة يجب الاعتزاز بها.. إنه على العرب أن يدركوا أنهم إما أن يعززوا علاقاتهم بهذه الأمة الشقيقة العظيمة وإما أن يتركوها لغيرهم من الذين سيسعون لتحويلها إلى أمة معادية لاستنزاف الأمة العربية بصراعات لا حدود ولا نهاية لها.
واستطرادا فإن المؤكد أن القيادة الكردية وعلى رأسها الزعيم مسعود بارزاني تدرك أنه وحتى وإن هي حصلت على دعم الأتراك لقيام دولة الأكراد المنشودة في إقليم كردستان – العراق، وهذا هو رابع المستحيلات وغير متوقع ولا يمكن أن يكون على الإطلاق، فإن العقدة الكأداء التي لا حل لها تبقى أن هذه الدولة الإيرانية التوسعية لا يمكن أن تسكت عن قيام هذه الدولة المنشودة التي ستنتقل عدواها بالتأكيد إلى أكراد إيران الذين يشكلون المجموعة القومية الثالثة في إيران إلى جانب الفرس والتركمان الآذاريين والذين كانوا وما زالوا يتعرضون لاضطهاد بغيض عنوانه تلك الإعدامات الإجرامية على أعمدة وأسلاك الكهرباء في مدينة كرمنشاه الكردية بعد انتصار الثورة الإيرانية في عام 1979 مباشرة.
لقد طال ليل الشعب الكردي وهو وحده الذي حرم من حق تقرير المصير الذي بقيت تتمتع به، وإنْ شكليا وصوريا، كل شعوب هذه المنطقة منذ ما بعد الحرب العالمية الأولى وحتى الآن لكن ومع أن كل صاحب ضمير حي لا بد وأن يساند قيام الدولة القومية الكردية في كل امتدادات وطن هذا الشعب العظيم حقا والذي تربطه بأخوته العرب رابطة تاريخية يجب أن تكون أبدية فإنه يجب أن يكون مفهوما ومنذ الآن أن الإيرانيين أكثر كثيرا من الأتراك رفضا لقيام دولة مستقلة في كردستان – العراق وأنهم في حقيقة الأمر يملكون أوراقا كثيرة بإمكانهم لعبها ضد هذه الخطوة وهنا فإنه يجب التذكير بما جرى في الفترة منذ عام 1994 وحتى عام 1996، حيث لجأت طهران إلى الألغام الكردية الداخلية لقطع الطريق على كل مستجدات تلك المرحلة الحاسمة وحيث كان مسعود بارزاني يسعى لالتقاط اللحظة التاريخية لتحقيق ما كان يعتبر خطوة ضرورية لتحقيق تطلعات شعبه.
إنه من غير الممكن أن تسكت أو تتغاضى إيران عن مثل هذه الخطوة التي ينوي اتخاذها الزعيم مسعود بارزاني مع أنها حق للشعب الكردي، فهذا البلد، أي إيران، يعاني من وضع «فسيفسائي» لتركيبته السكانية، فبالإضافة إلى الأكراد هناك العرب والبلوش وهناك الآذاريون وقوميات وإثنيات أخرى كثيرة لا حصر لها ولذلك فإنه، هذا البلد، يعرف أن عدوى قيام دولة كردستان – العراق سوف تنتقل حتما إلى الأكراد الإيرانيين الذين ما زالوا يحنون لدولة «مهاباد» والذين يسعون لاستعادتها وأنه يعرف أيضا أنها ستنتقل حتما إلى العرب والبلوش وإلى الآذاريين التركمان.. ولذلك ومرة أخرى فإنه سيكون مستعدا للتدخل أكثر من تدخله الحالي في العراق وسوريا لإحباط أي خطوة كهذه الخطوة التي تستعد لها القيادة الكردية والتي يؤيدها وينتظرها الشعب الكردي كله.
ربما أن القيادة الكردية وهي تستعد للقيام بهذه الخطوة، التي إن هي قامت بها فإنها ستحدث بالتأكيد زلزالا سياسيا وكيانيا في المنطقة كلها، تعتقد أن الولايات المتحدة التي كانت رفعت راية تقسيم العراق إلى ثلاثة كيانات فيدرالية، الكيان الشيعي والكيان السني والكيان الكردي، والتي أيدت لاحقا هذا «التقسيم» على لسان بول بريمر سيئ الصيت والسمعة وعلى ألسنة غيره من كبار المسؤولين الأميركيين سوف تقف معها وتساندها لكن المفترض أن هذه القيادة بحكم تجاربها التاريخية تعرف أنه لا يجوز الوثوق بالولايات المتحدة أكثر من اللزوم، فهي دولة وبخاصة في عهد هذه الإدارة متقلبة وهي عندما تعرب عن «رغبتها» في الحفاظ على وحدة العراق فإنها في حقيقة الأمر تقصد رفضها لإقامة الدولة الكردية المنشودة ليس لأن هذه هي قناعتها ولكن لأنها مضطرة لمجاملة الأطراف العراقية المتصارعة والتي تزايد بعضها على بعض ولأنها مضطرة لمجاراة تركيا ومضطرة لممالأة الولي الفقيه والحكومة الإيرانية.